التجديد في الإسلام
تمهيد:
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أوجد الله تبارك وتعالى الخـلــق على ظهر هذه البسيطة - بحكمته البالغة - ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؟ واقتضت حكـمـتــه سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة والصلاة والميل عن الشرك إلى التوحيد.
فأوجد البشر - أول ما أوجدهم على الحنيفية ، قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً))(1).
وقال: ((ومَا كَانَ النَّاسُ إلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)) (2).
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل:
»كل مال نحلته (3) عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم(4) عن دينهم وحرمت عليـهـم مـا أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً...« (5) الحديث.
وجعلهم - سبحانه - يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة المستقيمة ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -:
»ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جـدعـاء؟« ، ثـم يـقــول أبـو هريرة: واقرءوا إن شئتم: ((فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)) (6).
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (والفطرة: الإسـلام)(7).
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: »ما من مولود إلا على هذه الملة ، حتى يبين عنه لسانه« (8).
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقـع الحـيـاة ما علمه عنهم بسابق علمه سبحانه ؛ فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقين: الخير أو الـشـر ، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى ، وفي مقدورهم الانحراف عنها والميل إلى طـريــق الـضــلال.
وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه - في الجملة - ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - مبشرين ومنذرين ، بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة.
كما ابتلاهم - سبحانه بحكمته - بالشهوات والشبهات لتكون محكاً حقيقياً يكـشـف عن توجه الإنسان ومقصده ، والشياطين تزكي هذه وتلك وتؤز الإنسان للشر والمنكر أزاً.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير ، تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لـهـا الأدلــة الكونية والعقلية ، وقوة الشر ، تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية - بشكل أوسع - حيث يتميز المؤمنون أتباع الرسـل ، عـن المـجـرمـيـن أتـبـاع الـشـيـاطـيـن .. ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها.
ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلـيـن - عليهم الصلاة والسلام - ، الذين كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة ، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ إلهيةٍ جديدةٍ ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله ، حتى ختم الله الرسالات برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وانقطع بـمـوتــه - عـلـيـه الصلاة والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
* * *
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن ، ويـطــرأ عـلـيـهــا بمــرور الزمن ما يكدر صفائها ، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عـوامــل الانحـراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه ثم تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولـقــد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها - في قضايا الاعتقاد - حتى في حـيــاة رسـلـهــم - عليهم الصلاة والسلام - ، فكيف وقد ختمت الرسالات ، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟؟ وكيف بما دون تلك القضايا من أمور التشريع؟.
وإذا كان المنافقون والـضـالـون يجــدون مـن يسـتمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم رغم وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل القـيــادة الـسليمة والقدوة الصالحة ، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب ، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل ، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات المـضـلـلـة ، وخـفــت صــوت الحـق ، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين الأصوات ، ولا بين الألوان؟؟
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة أمر دينها ، وتجلي الحقائق الملتبسة ، وتحيي الفرائض المعطلة ، وتزيل ما علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّــر الحديث النبوي الشريف.
حديث المجدِّد:
قـال الإمــام أبـو داود - رحـمـه الله تعالي - (في سننه): حدثنا سليمان بن داود المُهري ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا سعد بن أبي أيوب ، عن شراحيل بن يزيد المعافري ، عن أبي علقمة ، عن أبي هريرة ، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
»إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها«.
قال أبو داود: (رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني ، لم يجز به شراحبيل)(9).
وهذا الحديث أخرجه أيضاً: الحـاكــم في مستدركه عن طريق الربيع بن سليمان بن كامل المرادي ، عن ابن وهب به (10).
ورواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن طريق عثمان بن صالح ، عن ابن وهب(11).
ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بـن ســواد ، وحرملـة بن يحيى ، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن وهب (12).
ومن طريقه - طريق ابن عدي - أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار) (13).
وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد (14).
ومن طريقه أخرجه البيهقي في (مناقب الشافعي) (15).
وعزاه السيوطي والسخاوي باللفظ السابق إلى الطبراني في (معجمه الأوسط) (16).
كما عزاه السيوطي إلى أبي نعيم ، والبزار ، ولعله لا يقصد الـحـديـث بلفظه السابق ، بل يقصد اللفظ الآخر الآتي قريباً إن شاء الله.
كما عزاه الألباني لعمرو الداني في (الفتن) 45/1 ، والـهــروي في ذم الكلام (ق / 111/2) وانظر اللفظ الآتي بعد قليل (17).
ورواه ان عساكر في (تبيين كذب المفتري) من طريق أبي داود ثم من طريق ابن عدي (18).
وقول الراوي: (فيما أعلم) ليس شكاً في رفع الحديث ، وإنما هــو مــن قـبـيــل التحرز في الرواية ، والتشدد في الأداء ، المعروف عند السلف.
وعلى فرض وقف الحديث فهو في حكم المرفوع ؛ لأنه مما لا يقال بالرأي المـجـــرد ؛ بل بالتوقف إذ هو إظهار عن أمر مستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبي داود: (ورواه عبد الرحمن بن شريح لم يجز به شراحيل) ، فهو يعـنــي أن عبد الرحمن قد أعضل الحديث فأسقط من إسناده أبا علقمة وأبا هريرة.
وطـريـق سعيد بن أبي أيوب المتصلة هي الراجحة وإن كان كلاهما ثقتين لأنها مــن بــاب زيادة الثقة ، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارضها ما هو أثبت منها ، وهذا الحاصل هنا ، فيتعين قبولها ، والمصير إليها.
وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه.
1- وسـكـــت عنه الحاكم ثم الذهبي كما في مطبوعه (المستدرك) ونقل غير واحد تصحيح الحاكم له منهم: السيوطي (19) ثم المناوي (20).
2- وقال ابن حجر - بعد سياق أقوال الأئمة في المجدِّد -:
(وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهوراً في ذلك العصر ، ففيه تقوية للسند المذكور ، مع أنه قوي لثقة رجاله)(21).
3- وقال السيوطي: (اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.. »ثم قال«: وأما المتقدمون فكلهم لهجوا بذكر هذا الحديث)(22).
ورمز لصحته في (الجامع الصغير) (23).
4- وقال الزين العراقي: سنده صحيح (24).
5- وقال السخاوي: سنده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات (25).
6- وقال المناوي: بإسناد صحيح (26).
7- وقال الألباني: والسند صحيح ، ورجاله ثقات ، رجال مسلم (27).
وبالجملة فقد اعتمده الـعـلماء: الزهري، وسفيان بن عيينة، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، والـنووي، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني، والحافظ الذهبي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ ولي الدين العراقي، وابن الجزري، وابن كثير، وابن الأثيـر، والسيوطـي، والسـخاوي، والمناوي، ومئات غير هؤلاء، كلهم اعتمدوا الحديث، واشتغلوا في تجديد من ينطبق عليهم الحديث.
ولم نعثر خلال البحث عن ضعَّف الحديث أو تكلم فيه ، فالحمد لله رب العالمين.
ألفاظ أخرى للحديث:
ورد الحديث بألفاظ أخرى مختلفة قليلاً أو كثيراً عن اللفظ المسوق من قبل.
فــرواه النحاس عن سفيان بن عيينة قال: (بلـغـنـي أنه يخرج في كل مائة سنة بعد موت رســـول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يقوي الله به الدين ، وإن يحيى بن آدم عندي منهم)(28).
وبنحوه أجره البزار (29).
وروى عنه بلفظ: »إن الله يمنُّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي، يبين لهم أمر دينهم« (30).
وألفاظ أخر غير هذه كثيرة تلتقي كلها عند الإمام أحمد ، وهي روايات مـعـلـقـة لم توجد موصولة في موضع آخر ولم يوقف على إسناده في شيء من الكتب ولا الأجزاء الحديـثية - كما قال السيوطي (31) - ولذا لا يعول على المعاني التي انفردت بها هذه الروايات مثل: كون المجدِّد فرضاً ، وكونه من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكونه على رأس المائة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر لفظ ابن عيينة - رحمه الله -.
3- بعض المعاني المستخرجة من الحديث:
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها أمته ، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين ، ويمنحه - فوق هذا - دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظاً من أجر المجدِّدين.
وسنقـف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث.
1- فأول ما يستوقف المتأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : »يبعث لهذه الأمــة« إن هذا المـبـعـوث لم يعد همه نفسه فحسب ، بل تجاوز ذلك ليعيش »لهذه الأمة« وسـواء كــان المقصود أمـــة الدعوة - على ما رآه قوم - أو أمة الإجابة - على ما رآه آخرون - ؛ فـإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطــوات الأمة المسلمة في معركة الحياة ، ومن ثم يحدث التوازن في مـسـيرة الحياة البشرية كلها ، ويأخذ الإسلام دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمــــة الإســـلامية بإيقاظها ، وإعادة ثقتها بدينها ، وردها إلى المنهج الصحيح.
وهـــو مجرد للبشرية كلها ، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير ، ويرضون بالدون ، فيكتفي أحدهم بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس!.
بل قد تعظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف ، وأقلق قلبه تـسـلـــــط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون ، فآلى على نـفـسـه أن يزاحمهم ما استـطــاع ، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفــوسـهــم الآمال والتطلعات كثيرون ، ولكنهم يتناقدون ويتساقـطـون واحداً بعد الآخر كما تقدمت بـهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون ؛ لأنهم صابروا العقبات وغالبوها حتى غلبوها ؛ لأن همتهم كانت أعظم مـن تلـك العقـبــــات: كانت تجديد الدين لهذه الأمة ، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم ، مع تحقيق معنى انتمائهم للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي ، ويمارسون دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
2- أما »البعث« المذكور أنه يكون على رأس المائة ، فإن البعث هو الإثارة والإرسال ، فيكون المعنى: (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجدداً ، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام ، وينتصب لنشر الأحكام)(32).
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة ، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن وقال: (وموته على رأس القرن أخذ لا بعث)(33).
قال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر من: انقضت المـائـــة وهـو حــــي، عالم مشهور مشار إليه)(34).
وقال الكرماني والطيبي مثل ذلك (35).
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار المجدِّدين)(36):
والـشــرط في ذلك أن تمضي المائــة وهــــــو عـلــى حياته بين الفئة
يـشـار بالـعـلــــم إلـى مـقــامــــــه وينـصــر السـنـة في كلامه (37).
وكذلك لا نعلم دليلاً في اشتراط كون وفاة المجدد في بداية القرن التالي أو بعده بقليل ، كما يلحظ في منهج كثير ممن تصدوا لتعيين المجددين ؛ حيث يـستـبـعـــدون بـعـض الأئـمــة محتجين بأن وفاته تأخرت إلى العشرين مثلاً أو الثلاثين بعد المائة مثلاً (38).
وسواء كان بعث المجدد في نهاية القرن السابق ، أو في بداية القرن اللاحق فليس ثمة ما يدل على ضرورة اشتراط وفاته في تلك الفترة.
وهذا كله على اعتبار أن المجدد فرد واحد ، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة مفصلاً بعد قليل - بإذن الله -.
3- أما المقصود بـ (الرأس) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : »على رأس كل مائة سنة«، قد قال بعضهم: يعني في أولها ، وقال آخرون: بل في آخرها (39).
وأصل مادة »رأس« في اللغة تدل على التجمع والارتفاع (40).
وتستعمل هذه المادة في الوجهين في أول الشيء وفي آخره ؛ فتقول: أعد علي كلامـــك من رأسٍ ، وأنت على رئاس أمرك ، بمعنى: أوله (41).
ومثله: رأس المال ، أي: أصله وأوله (42).
وتقول: القافية رأس البيت ، بمعنى: آخره (43).
وجاء في الشرع الوجهان: فمن الأول: رأس الأمر الإسلام (44) ، بمعنى: أوله ورأسه.
ومن الثاني: قد كانت إحداكن ترمي البعرة عند رأس الحول (45) ، يعني: في آخره.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : »أرأيتم ليلتكم هذه؟ على رأس مائة سنة مـنـهـا لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدِ« (46).
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملاً لـلـوجـهين ، فهذا عــمـر بن عبـد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة 99 هـ ، وتوفي - رحمه الله - سـنـــة 101 هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي - رحمه الله - سنة 204 هـ ، ولعل القضية تقريبية لا تحتمل الـحـسـم الـقـاطــع بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد ثم مات قبل تمام المائة بخمسة أيام يكون مجدداً!..
ولـعــل مــا يلـتـحـق بهذا معرفة مبدأ المائة: من أين يكون؟ أمن مولده - صلى الله عليه
وسلم - ؟ أم من بعثته؟ أم من هجرته؟ أم من وقت نطقه بذلك الحديث؟ أم من وفاته؟.
ولا نحب أن نـدخـل في جدل حول هذه الأمور - وإن كان الترجيح بينها ممكناً - ولكننا نقول:
إن بداية أي قرن تتصل بنهاية القرن الذي قبله ، ومما لا يتلاءم مع طريقة الشرع اعتبار الفصل بينهما بصورة قاطـعة ؛ ذلك أن الشرع حتى في الأمور العبادية كالصلاة والصيـــام والحج وغيرها علق ذلك على أمور ظاهرة مدركة لجمهور الناس.. فكيف بما ليس كذلــك ولا يدخل فيه تعبد؟.
الظاهر - والله أعلم - أن عدم تحديد المقصود بالرأس ، وعدم تحديد المبتدأ.. كـــل ذلك أمرٌ مقصود فيه أن المجدد يظهر كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة ، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
وهذا ينسجم مع الأحداث التاريخية كلها ؛ فإنها تسير بقدر الله تعالى على دفــــع مـــا تقتضيه الأسباب - غالباً - غير مقيدة أو محددة بفترات معينة.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم ودنياهم ، والتي يفـتـقــر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا موقوفة بأزمنة خاصة.
وفي تلك الـنـكـبــات تتجلى رحمة الله بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - حيث ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور.
كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زماناً ومكاناً ما يجعله حياً في الأجيال التالية بعلمه وعمله ، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد انتهت.
وإن من شأن هذا الـتـصــــور الذي عرضناه ، وهذا الرأي الذي اخترناه أن ترد الأمور إلى نصابها فبحسب من أحـيـــا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهراً ملموساً للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت عن رأس القرن.
4- أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : »من يجدِّد لها دينها«.
فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
هل الـمـقـصـود بذلك فـرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟.
فأما لفظ »مَنْ« فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة - من حيث اللفظ - ، ومن حيث المراد بها في الـحـديــث قال بعضهم: المقصود بها فردٌ ، وحملوا »مَنْ« في هذه الرواية على لفظ (رجل) ، أو (عالم »في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها (47).
واختار هذا الرأي عدد من العلماء ، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال:
وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث ، والجمهور (48)
ونسبه غيره إلى (العلماء)(49).
واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والـذهـبـي، والـمـنــاوي، والعظيم آبادي ، وغيرهم ، وسيأتي بسط كلامهم.
وقبل الدخول في محــاولة الـتــرجـيـح نرى التقديم بحديثين فيهما بشريان أخريان لهـذه الأمة:
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: »لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله« (50).
وهذا الحديث عظيم مشهور، بل يصلح أن يدعى فيه التواتر، فقد ورد من طرق كثيرة جداً عن عدد من الصحابة منهم:
عمران بن حصين، وثوبان، وقرة بن إيـــاس، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبــو عـتـبـة الـخـولانــي، وعمر بن الخطاب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، ومرة البهزي ، وسلمة بن نفيل (*) السكوني ، وشرحبيل بن السَّمْط الكندي (*).
قال الترمذي: (وفي الباب عن عـبد الله حوالة ، وابن عـمـر ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو)(51).
فهؤلاء إحدى وعشرون نفساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، رواه عنهم عدد لا يحصون كثرة من التابعين ، مع أننا لم نسلك مسلك الاستقصاء.
وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والــوهـن والاختلاف حتى لا يبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق المقاتلة دونه ، القاهرة لعدوها ، الصـابــرة ، فلا يضرّها من خذلها ، ولا من ناوأها ، إلا ما يصيبها من اللأواء حتى يكون آخرهم مع عيسى ابن مريم يقاتلون الدجال.
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحـديــث: (بـاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، وهم أهل العلم)(52).
الهوامش:
1- البقرة آية 213.
2- يونس آية 19.
3- نحلته: أعطيته.
4- اجتالتهم: صرفتهم عن هداهم إلى ضلالتها وأخذتهم بأن يجولوا معها واختارتهم لأنفسها (أساس البلاغة).
5- رواه مسلم في: 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. 16 - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار ، حديث رقم 63 ، الرقم العام 2865 ، ج4 ص2197 ، ط: عبد الباقي ، رواه أحمد في (المسند) ج4 ، ص 162 ضمن حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه -.
6- الآية من سورة الروم ، رقم الآية 30 ، والحديث رواه البخاري في: 23 - كتاب الجنائز ، 92 - باب ما قيل في أولاد المشركين. حديث 1385 ، الفتح 3/ 245 - 246.
ورواه أيضاً في: 65 - كتاب التفسير ، باب لا تبديل لخلق الله ، رقم: 4775 ، ج8 ، ص12 ، ورواه أيضاً في 82 - كتاب القدر ، 3 - باب: الله أعلم بما كانوا عاملين ، رقم 6599 ، ج11 ، ص 93. ورواه مسلم في: 46 - كتاب القدر. 6 - باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة ، رقم 2658 ، ج4 ، ص 47 ، ورواه أحمد في مواضع: 2/315 ، 346 - 347 ، 275.
7- في الموضع السابق من كتاب التفسير 8/512.
8- هذا أحد ألفاظ مسلم.
9- أبو داود: 31 - كتاب الملاحم ، 1 - باب ما يذكر في قرن المائة ، حديث 291 ، ج4 ، ص480 ، ط3.
10- المستدرك: كتاب الفقه والملاحم ج4 ، ص 522 ، دار الفكر.
11- تاريخ بغداد ج2 ، ص 61 ، نشر دار الكتاب العربي.
12- المقدمة ص 181 - 183 ، تحقيق: السامراني ، ط: الأعظمي ببغداد ، وج1 ، ص123 ، ط: دار الفكر.
13- ج1 ، ص 137 ، تحقيق: سيد أحمد صقر ، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
14- ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس) ص 240 من المخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم 106 مجاميع.
وتابعه على ذلك المصنفون من بعده كالسيوطي ، والعظيم أبادي صاحب (عون المعبود).
15- ج1 ، ص 53 ، تحقيق: أحمد صقر ، ط: دار التراث.
16- السيوطي في رسالته المخطوطة: (التنبئة فيمن يبعث الله على رأس كل مائة) ص 2أ. والسخاوي في (المقاصد الحسنة »ص 122 ، حديث 238 ، ط: دار الكتب العلمية.
17- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599 ، المكتب الإسلامي.
18- ص 51 ، 52 ، ط: القدسي ، عام 1399 هـ.
19- السيوطي في (التنبئة) ص 2أ ، وفي شرحه (مرقاة الصعود على سنن أبي داود) ص 189ب (مخطوطتان).
20- فيض القدير ج2 ، ص 282.
21- توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس (المخطوطة) ص 24 ب.
22- التنبئة ، ص 2أ ، ونحوه في مرقاة الصعود ، ص 189 ب.
23- الجامع الصغير ، ج1 ، ص 74.
24- ذكره السيوطي في مرقاة الصعود ، ص 189ب ، وفي التنبئة: 2أ ، والمناوي في فيض القدير ج2 ، ص 282 ، وصاحب عون المعبود ج4 ، ص 183 ، ط. هندية.. وغيرهم.
25- المقاصد الحسنة ، ص 121 ، ثم قال: (وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث) .
26- فيض القدير ج2 ص282.
27- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599.
وقال في صحيح الجامع: حديث صحيح ، ج2 ، ص 143 ، رقم 1870 ، ط: المكتب الإسلامي.
أما قوله: (رجال مسلم) فنعم ، وانظر في ذلك: تهذيب التهذيب ج6 ، ص71 ، ج4 ، ص7 ، ج4 ، ص 320 ، 323 ، 326 ، ج12 ، ص 173.
28- الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ، مخطوط ورق 85/ب ، 86/أ.
29- عن توالي التأسيس لابن حجر، مخطوطة، ورقة 24 / أ، والتنبئة ، ورقة 2 أ - ب.
30- أبو نعيم في الحلية 9/97، وأبو إسماعيل الهروي بواسطة التنبئة ورقة 2/ب، ولعله هو اللفظ الذي عناه الشيخ الألباني في إحالته السابقة إلى الهروي في ذم الكلام.
31- التنبئة ورقة 5/ب.
32- مقدمة فيض القدير للمناوي ، ج1 ، ص10.
33- أيضاً 1/12.
34- جامع الأصول ج11 ، ص 324 ، تحقيق: الأرنؤوط ، ط: الملاح.
35- فيض القدير 1/12 ، وانظر: عون المعبود 4/178 ، 180.
36- موجودة بكاملها في آخر رسالته (التنبئة) ، وموجودة في فيض القدير ج2 ، ص282، وعون المعبود 4/81.
37- التنبئة ص18/ب.
38- ومن هؤلاء: ابن السبكي في: طبقات الشافعية ، ج1 ، ص 202 ، حيث يرجح بعضهم لقرب وفاته من رأس المائة. وبدر الدين الأهدل في رسالته: (الرسالة المرضية في نصر مذهب الأشعرية) على ما نقله السيوطي في التنبئة ، ص 13/ب ، وانظر مستدرك الحاكم ج4 ، ص 522 ، 523.
39- انظر: عون المعبود ج4 ، ص 178 - 179 ، ط: الهندية.
40- معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج2 ، ص471 ، دار الكتب العلمية - إيران - قم.
41- الصحاح للجوهري ج3 ص933 ، دار العلم للملايين ، ومعجم مقاييس اللغة.
42- القاموس المحيط ج2 ، ص 226 ، ط2 الحلبي.
43- لسان العرب ج6 ، ص 91 ، ط: دار صادر.
44- حديث مرفوع رواه الترمذي في: 41 - كتاب الإيمان ، 8 - باب ما جاء في حرمة الصلاة ، حديث رقم 2616 ج5 ص12 ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
45- حديث مرفوع رواه مسلم في: 18 - كتاب الطلاق ، 9- باب وجوب الإحداد ، رقم 61 ج2 ص 126 ، وأبو داود في: 7 - الطلاق ، 43 - باب إحداد المتوفى عنها زوجها، رقم 2299 ، ج2 ص722 ، والترمذي في: 11 - كتاب الطلاق ، 18 - باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها ، رقم 1197 ، ج3 ص 492 ، والنسائي في الطلاق ، باب عدة المتوفى عنها زوجها 6/188 ، وليس فيه لفظ (رأس الحول) .
46- حديث: أرأيتكم ليلتكم.. رواه البخاري في صحيحه في:
أ - 3ـ كتاب العلم ، 41 - باب السمر في العلم ، حديث رقم 116 ، ج1 ، ص211 (مع الفتح ».
ب - 9 - مواقيت الصلاة ، 20 - باب ذكر العشاء والعتمة ، حديث 564 ، ج2 ، ص 45.
ج - 9 - مواقيت الصلاة أيضاً ، 40 - باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ، حديث 601 ، ج2 ، ص 73.
ورواه الإمام أحمد في (مسنده) ج2 ، ص88 ، ص121 ، ص131.
47 - انظر: توالي التأسيس ص 24/ب ، وفيض القدير ج1 ، ص10 ، وفتح الباري ج13، ص295..
48- التنبئة ص 18/ب.
49- بذل المجهود ج17 ، ص203.
50- رواه البخاري في 96 كتاب الاعتصام ، 10 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق رقم 7311 ، ورقم 7312 ، ج13 ، ص293.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان ، 7- باب نزول عيسى عليه السلام ، حديث رقم 156 ، ج1 ، ص137.
وفي: 33 - كتاب الإمارة ، 53 - باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة.. الخ ، رقم 1920 ، 1921 ، 1922 ، 1923 ، وقطعة من حديث في الزكاة بعد هذا الموضع وهي برقم 1037 ، 1924 ، 1925 ، ج3 ، ص1523 - 1525.
وأبو داود في كتاب الجهاد 4 باب دوام الجهاد ، رقم 2484 ، ج3 ، ص11 ، وفي: 29 - كتاب الفتن والملاحم ، 1 - باب ذكر الفتن ودلائلها ، رقم 4252 ، ج4 ، ص 452 ، والترمذي في 34 كتاب الفتن ، 37 - باب ما جاء في الشام ، حديث 2192 ، ج4 ، ص485، وقال: حسن صحيح وفي: 51 - باب ما جاء في الأئمة المضلين، حديث 2229، ج4 ، ص504 ، وقال أيضاً: حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في: المقدمة 1 - باب اتباع سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حديث 6 - 10 ج1 ، ص5 ، وفي 36 كتاب الفتن 9 - باب ما يكون من الفتن ، حديث 3952، ج3 ، ص1304.
ورواه الدارمي في 16 - كتاب الجهاد ، 39 - باب لا يزال طائفة من هذه الأمة... رقم 2437 ، 1438 ، ج2 ، ص2.
ورواه أحمد في مسنده: 5/34 ، 239 ، 278 ، 279.
ورواه الطبراني في مواضع هذه بعضها: ج2 ، ص 248 ، رقم 1922 ، ص250 ، رقم 1931، ص 265 ، رقم 1996 ، ص 269 ، رقم 2011 ، ج5 ، ص 185 ، رقم 1967 ، ج8 ، ص 171 ، رقم 7643 ، ج17 ، ص314 ، رقم 869 - 870 ، ج20 ، ص 318 ، رقم 754 ، ص402 ، رقم 959 - 960.
* مر تخريج أحاديثهم في الصفحة السابقة ، أما سلمة بن فضيل فأشار إلى حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ص 42 ، ط: مؤسسة الرسالة (مع الرد على الجهمية)، ورواه في تاريخه الكبير ج4 ص 71 ، وحديث شرحبيل في ، ج4 ، ص248.
51- سنن الترمذي ج4 ، ص485.
52- صحيح البخاري (مع الفتح) ج13 ، ص293.
تمهيد:
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أوجد الله تبارك وتعالى الخـلــق على ظهر هذه البسيطة - بحكمته البالغة - ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؟ واقتضت حكـمـتــه سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة والصلاة والميل عن الشرك إلى التوحيد.
فأوجد البشر - أول ما أوجدهم على الحنيفية ، قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً))(1).
وقال: ((ومَا كَانَ النَّاسُ إلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)) (2).
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل:
»كل مال نحلته (3) عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم(4) عن دينهم وحرمت عليـهـم مـا أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً...« (5) الحديث.
وجعلهم - سبحانه - يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة المستقيمة ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -:
»ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جـدعـاء؟« ، ثـم يـقــول أبـو هريرة: واقرءوا إن شئتم: ((فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)) (6).
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (والفطرة: الإسـلام)(7).
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: »ما من مولود إلا على هذه الملة ، حتى يبين عنه لسانه« (8).
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقـع الحـيـاة ما علمه عنهم بسابق علمه سبحانه ؛ فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقين: الخير أو الـشـر ، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى ، وفي مقدورهم الانحراف عنها والميل إلى طـريــق الـضــلال.
وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه - في الجملة - ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - مبشرين ومنذرين ، بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة.
كما ابتلاهم - سبحانه بحكمته - بالشهوات والشبهات لتكون محكاً حقيقياً يكـشـف عن توجه الإنسان ومقصده ، والشياطين تزكي هذه وتلك وتؤز الإنسان للشر والمنكر أزاً.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير ، تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لـهـا الأدلــة الكونية والعقلية ، وقوة الشر ، تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية - بشكل أوسع - حيث يتميز المؤمنون أتباع الرسـل ، عـن المـجـرمـيـن أتـبـاع الـشـيـاطـيـن .. ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها.
ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلـيـن - عليهم الصلاة والسلام - ، الذين كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة ، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ إلهيةٍ جديدةٍ ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله ، حتى ختم الله الرسالات برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وانقطع بـمـوتــه - عـلـيـه الصلاة والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
* * *
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن ، ويـطــرأ عـلـيـهــا بمــرور الزمن ما يكدر صفائها ، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عـوامــل الانحـراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه ثم تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولـقــد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها - في قضايا الاعتقاد - حتى في حـيــاة رسـلـهــم - عليهم الصلاة والسلام - ، فكيف وقد ختمت الرسالات ، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟؟ وكيف بما دون تلك القضايا من أمور التشريع؟.
وإذا كان المنافقون والـضـالـون يجــدون مـن يسـتمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم رغم وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل القـيــادة الـسليمة والقدوة الصالحة ، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب ، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل ، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات المـضـلـلـة ، وخـفــت صــوت الحـق ، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين الأصوات ، ولا بين الألوان؟؟
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة أمر دينها ، وتجلي الحقائق الملتبسة ، وتحيي الفرائض المعطلة ، وتزيل ما علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّــر الحديث النبوي الشريف.
حديث المجدِّد:
قـال الإمــام أبـو داود - رحـمـه الله تعالي - (في سننه): حدثنا سليمان بن داود المُهري ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا سعد بن أبي أيوب ، عن شراحيل بن يزيد المعافري ، عن أبي علقمة ، عن أبي هريرة ، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
»إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها«.
قال أبو داود: (رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني ، لم يجز به شراحبيل)(9).
وهذا الحديث أخرجه أيضاً: الحـاكــم في مستدركه عن طريق الربيع بن سليمان بن كامل المرادي ، عن ابن وهب به (10).
ورواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن طريق عثمان بن صالح ، عن ابن وهب(11).
ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بـن ســواد ، وحرملـة بن يحيى ، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن وهب (12).
ومن طريقه - طريق ابن عدي - أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار) (13).
وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد (14).
ومن طريقه أخرجه البيهقي في (مناقب الشافعي) (15).
وعزاه السيوطي والسخاوي باللفظ السابق إلى الطبراني في (معجمه الأوسط) (16).
كما عزاه السيوطي إلى أبي نعيم ، والبزار ، ولعله لا يقصد الـحـديـث بلفظه السابق ، بل يقصد اللفظ الآخر الآتي قريباً إن شاء الله.
كما عزاه الألباني لعمرو الداني في (الفتن) 45/1 ، والـهــروي في ذم الكلام (ق / 111/2) وانظر اللفظ الآتي بعد قليل (17).
ورواه ان عساكر في (تبيين كذب المفتري) من طريق أبي داود ثم من طريق ابن عدي (18).
وقول الراوي: (فيما أعلم) ليس شكاً في رفع الحديث ، وإنما هــو مــن قـبـيــل التحرز في الرواية ، والتشدد في الأداء ، المعروف عند السلف.
وعلى فرض وقف الحديث فهو في حكم المرفوع ؛ لأنه مما لا يقال بالرأي المـجـــرد ؛ بل بالتوقف إذ هو إظهار عن أمر مستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبي داود: (ورواه عبد الرحمن بن شريح لم يجز به شراحيل) ، فهو يعـنــي أن عبد الرحمن قد أعضل الحديث فأسقط من إسناده أبا علقمة وأبا هريرة.
وطـريـق سعيد بن أبي أيوب المتصلة هي الراجحة وإن كان كلاهما ثقتين لأنها مــن بــاب زيادة الثقة ، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارضها ما هو أثبت منها ، وهذا الحاصل هنا ، فيتعين قبولها ، والمصير إليها.
وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه.
1- وسـكـــت عنه الحاكم ثم الذهبي كما في مطبوعه (المستدرك) ونقل غير واحد تصحيح الحاكم له منهم: السيوطي (19) ثم المناوي (20).
2- وقال ابن حجر - بعد سياق أقوال الأئمة في المجدِّد -:
(وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهوراً في ذلك العصر ، ففيه تقوية للسند المذكور ، مع أنه قوي لثقة رجاله)(21).
3- وقال السيوطي: (اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.. »ثم قال«: وأما المتقدمون فكلهم لهجوا بذكر هذا الحديث)(22).
ورمز لصحته في (الجامع الصغير) (23).
4- وقال الزين العراقي: سنده صحيح (24).
5- وقال السخاوي: سنده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات (25).
6- وقال المناوي: بإسناد صحيح (26).
7- وقال الألباني: والسند صحيح ، ورجاله ثقات ، رجال مسلم (27).
وبالجملة فقد اعتمده الـعـلماء: الزهري، وسفيان بن عيينة، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، والـنووي، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني، والحافظ الذهبي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ ولي الدين العراقي، وابن الجزري، وابن كثير، وابن الأثيـر، والسيوطـي، والسـخاوي، والمناوي، ومئات غير هؤلاء، كلهم اعتمدوا الحديث، واشتغلوا في تجديد من ينطبق عليهم الحديث.
ولم نعثر خلال البحث عن ضعَّف الحديث أو تكلم فيه ، فالحمد لله رب العالمين.
ألفاظ أخرى للحديث:
ورد الحديث بألفاظ أخرى مختلفة قليلاً أو كثيراً عن اللفظ المسوق من قبل.
فــرواه النحاس عن سفيان بن عيينة قال: (بلـغـنـي أنه يخرج في كل مائة سنة بعد موت رســـول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يقوي الله به الدين ، وإن يحيى بن آدم عندي منهم)(28).
وبنحوه أجره البزار (29).
وروى عنه بلفظ: »إن الله يمنُّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي، يبين لهم أمر دينهم« (30).
وألفاظ أخر غير هذه كثيرة تلتقي كلها عند الإمام أحمد ، وهي روايات مـعـلـقـة لم توجد موصولة في موضع آخر ولم يوقف على إسناده في شيء من الكتب ولا الأجزاء الحديـثية - كما قال السيوطي (31) - ولذا لا يعول على المعاني التي انفردت بها هذه الروايات مثل: كون المجدِّد فرضاً ، وكونه من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكونه على رأس المائة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر لفظ ابن عيينة - رحمه الله -.
3- بعض المعاني المستخرجة من الحديث:
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها أمته ، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين ، ويمنحه - فوق هذا - دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظاً من أجر المجدِّدين.
وسنقـف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث.
1- فأول ما يستوقف المتأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : »يبعث لهذه الأمــة« إن هذا المـبـعـوث لم يعد همه نفسه فحسب ، بل تجاوز ذلك ليعيش »لهذه الأمة« وسـواء كــان المقصود أمـــة الدعوة - على ما رآه قوم - أو أمة الإجابة - على ما رآه آخرون - ؛ فـإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطــوات الأمة المسلمة في معركة الحياة ، ومن ثم يحدث التوازن في مـسـيرة الحياة البشرية كلها ، ويأخذ الإسلام دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمــــة الإســـلامية بإيقاظها ، وإعادة ثقتها بدينها ، وردها إلى المنهج الصحيح.
وهـــو مجرد للبشرية كلها ، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير ، ويرضون بالدون ، فيكتفي أحدهم بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس!.
بل قد تعظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف ، وأقلق قلبه تـسـلـــــط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون ، فآلى على نـفـسـه أن يزاحمهم ما استـطــاع ، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفــوسـهــم الآمال والتطلعات كثيرون ، ولكنهم يتناقدون ويتساقـطـون واحداً بعد الآخر كما تقدمت بـهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون ؛ لأنهم صابروا العقبات وغالبوها حتى غلبوها ؛ لأن همتهم كانت أعظم مـن تلـك العقـبــــات: كانت تجديد الدين لهذه الأمة ، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم ، مع تحقيق معنى انتمائهم للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي ، ويمارسون دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
2- أما »البعث« المذكور أنه يكون على رأس المائة ، فإن البعث هو الإثارة والإرسال ، فيكون المعنى: (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجدداً ، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام ، وينتصب لنشر الأحكام)(32).
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة ، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن وقال: (وموته على رأس القرن أخذ لا بعث)(33).
قال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر من: انقضت المـائـــة وهـو حــــي، عالم مشهور مشار إليه)(34).
وقال الكرماني والطيبي مثل ذلك (35).
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار المجدِّدين)(36):
والـشــرط في ذلك أن تمضي المائــة وهــــــو عـلــى حياته بين الفئة
يـشـار بالـعـلــــم إلـى مـقــامــــــه وينـصــر السـنـة في كلامه (37).
وكذلك لا نعلم دليلاً في اشتراط كون وفاة المجدد في بداية القرن التالي أو بعده بقليل ، كما يلحظ في منهج كثير ممن تصدوا لتعيين المجددين ؛ حيث يـستـبـعـــدون بـعـض الأئـمــة محتجين بأن وفاته تأخرت إلى العشرين مثلاً أو الثلاثين بعد المائة مثلاً (38).
وسواء كان بعث المجدد في نهاية القرن السابق ، أو في بداية القرن اللاحق فليس ثمة ما يدل على ضرورة اشتراط وفاته في تلك الفترة.
وهذا كله على اعتبار أن المجدد فرد واحد ، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة مفصلاً بعد قليل - بإذن الله -.
3- أما المقصود بـ (الرأس) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : »على رأس كل مائة سنة«، قد قال بعضهم: يعني في أولها ، وقال آخرون: بل في آخرها (39).
وأصل مادة »رأس« في اللغة تدل على التجمع والارتفاع (40).
وتستعمل هذه المادة في الوجهين في أول الشيء وفي آخره ؛ فتقول: أعد علي كلامـــك من رأسٍ ، وأنت على رئاس أمرك ، بمعنى: أوله (41).
ومثله: رأس المال ، أي: أصله وأوله (42).
وتقول: القافية رأس البيت ، بمعنى: آخره (43).
وجاء في الشرع الوجهان: فمن الأول: رأس الأمر الإسلام (44) ، بمعنى: أوله ورأسه.
ومن الثاني: قد كانت إحداكن ترمي البعرة عند رأس الحول (45) ، يعني: في آخره.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : »أرأيتم ليلتكم هذه؟ على رأس مائة سنة مـنـهـا لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدِ« (46).
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملاً لـلـوجـهين ، فهذا عــمـر بن عبـد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة 99 هـ ، وتوفي - رحمه الله - سـنـــة 101 هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي - رحمه الله - سنة 204 هـ ، ولعل القضية تقريبية لا تحتمل الـحـسـم الـقـاطــع بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد ثم مات قبل تمام المائة بخمسة أيام يكون مجدداً!..
ولـعــل مــا يلـتـحـق بهذا معرفة مبدأ المائة: من أين يكون؟ أمن مولده - صلى الله عليه
وسلم - ؟ أم من بعثته؟ أم من هجرته؟ أم من وقت نطقه بذلك الحديث؟ أم من وفاته؟.
ولا نحب أن نـدخـل في جدل حول هذه الأمور - وإن كان الترجيح بينها ممكناً - ولكننا نقول:
إن بداية أي قرن تتصل بنهاية القرن الذي قبله ، ومما لا يتلاءم مع طريقة الشرع اعتبار الفصل بينهما بصورة قاطـعة ؛ ذلك أن الشرع حتى في الأمور العبادية كالصلاة والصيـــام والحج وغيرها علق ذلك على أمور ظاهرة مدركة لجمهور الناس.. فكيف بما ليس كذلــك ولا يدخل فيه تعبد؟.
الظاهر - والله أعلم - أن عدم تحديد المقصود بالرأس ، وعدم تحديد المبتدأ.. كـــل ذلك أمرٌ مقصود فيه أن المجدد يظهر كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة ، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
وهذا ينسجم مع الأحداث التاريخية كلها ؛ فإنها تسير بقدر الله تعالى على دفــــع مـــا تقتضيه الأسباب - غالباً - غير مقيدة أو محددة بفترات معينة.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم ودنياهم ، والتي يفـتـقــر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا موقوفة بأزمنة خاصة.
وفي تلك الـنـكـبــات تتجلى رحمة الله بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - حيث ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور.
كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زماناً ومكاناً ما يجعله حياً في الأجيال التالية بعلمه وعمله ، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد انتهت.
وإن من شأن هذا الـتـصــــور الذي عرضناه ، وهذا الرأي الذي اخترناه أن ترد الأمور إلى نصابها فبحسب من أحـيـــا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهراً ملموساً للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت عن رأس القرن.
4- أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : »من يجدِّد لها دينها«.
فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
هل الـمـقـصـود بذلك فـرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟.
فأما لفظ »مَنْ« فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة - من حيث اللفظ - ، ومن حيث المراد بها في الـحـديــث قال بعضهم: المقصود بها فردٌ ، وحملوا »مَنْ« في هذه الرواية على لفظ (رجل) ، أو (عالم »في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها (47).
واختار هذا الرأي عدد من العلماء ، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال:
وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث ، والجمهور (48)
ونسبه غيره إلى (العلماء)(49).
واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والـذهـبـي، والـمـنــاوي، والعظيم آبادي ، وغيرهم ، وسيأتي بسط كلامهم.
وقبل الدخول في محــاولة الـتــرجـيـح نرى التقديم بحديثين فيهما بشريان أخريان لهـذه الأمة:
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: »لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله« (50).
وهذا الحديث عظيم مشهور، بل يصلح أن يدعى فيه التواتر، فقد ورد من طرق كثيرة جداً عن عدد من الصحابة منهم:
عمران بن حصين، وثوبان، وقرة بن إيـــاس، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبــو عـتـبـة الـخـولانــي، وعمر بن الخطاب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، ومرة البهزي ، وسلمة بن نفيل (*) السكوني ، وشرحبيل بن السَّمْط الكندي (*).
قال الترمذي: (وفي الباب عن عـبد الله حوالة ، وابن عـمـر ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو)(51).
فهؤلاء إحدى وعشرون نفساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، رواه عنهم عدد لا يحصون كثرة من التابعين ، مع أننا لم نسلك مسلك الاستقصاء.
وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والــوهـن والاختلاف حتى لا يبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق المقاتلة دونه ، القاهرة لعدوها ، الصـابــرة ، فلا يضرّها من خذلها ، ولا من ناوأها ، إلا ما يصيبها من اللأواء حتى يكون آخرهم مع عيسى ابن مريم يقاتلون الدجال.
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحـديــث: (بـاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، وهم أهل العلم)(52).
الهوامش:
1- البقرة آية 213.
2- يونس آية 19.
3- نحلته: أعطيته.
4- اجتالتهم: صرفتهم عن هداهم إلى ضلالتها وأخذتهم بأن يجولوا معها واختارتهم لأنفسها (أساس البلاغة).
5- رواه مسلم في: 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. 16 - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار ، حديث رقم 63 ، الرقم العام 2865 ، ج4 ص2197 ، ط: عبد الباقي ، رواه أحمد في (المسند) ج4 ، ص 162 ضمن حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه -.
6- الآية من سورة الروم ، رقم الآية 30 ، والحديث رواه البخاري في: 23 - كتاب الجنائز ، 92 - باب ما قيل في أولاد المشركين. حديث 1385 ، الفتح 3/ 245 - 246.
ورواه أيضاً في: 65 - كتاب التفسير ، باب لا تبديل لخلق الله ، رقم: 4775 ، ج8 ، ص12 ، ورواه أيضاً في 82 - كتاب القدر ، 3 - باب: الله أعلم بما كانوا عاملين ، رقم 6599 ، ج11 ، ص 93. ورواه مسلم في: 46 - كتاب القدر. 6 - باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة ، رقم 2658 ، ج4 ، ص 47 ، ورواه أحمد في مواضع: 2/315 ، 346 - 347 ، 275.
7- في الموضع السابق من كتاب التفسير 8/512.
8- هذا أحد ألفاظ مسلم.
9- أبو داود: 31 - كتاب الملاحم ، 1 - باب ما يذكر في قرن المائة ، حديث 291 ، ج4 ، ص480 ، ط3.
10- المستدرك: كتاب الفقه والملاحم ج4 ، ص 522 ، دار الفكر.
11- تاريخ بغداد ج2 ، ص 61 ، نشر دار الكتاب العربي.
12- المقدمة ص 181 - 183 ، تحقيق: السامراني ، ط: الأعظمي ببغداد ، وج1 ، ص123 ، ط: دار الفكر.
13- ج1 ، ص 137 ، تحقيق: سيد أحمد صقر ، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
14- ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس) ص 240 من المخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم 106 مجاميع.
وتابعه على ذلك المصنفون من بعده كالسيوطي ، والعظيم أبادي صاحب (عون المعبود).
15- ج1 ، ص 53 ، تحقيق: أحمد صقر ، ط: دار التراث.
16- السيوطي في رسالته المخطوطة: (التنبئة فيمن يبعث الله على رأس كل مائة) ص 2أ. والسخاوي في (المقاصد الحسنة »ص 122 ، حديث 238 ، ط: دار الكتب العلمية.
17- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599 ، المكتب الإسلامي.
18- ص 51 ، 52 ، ط: القدسي ، عام 1399 هـ.
19- السيوطي في (التنبئة) ص 2أ ، وفي شرحه (مرقاة الصعود على سنن أبي داود) ص 189ب (مخطوطتان).
20- فيض القدير ج2 ، ص 282.
21- توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس (المخطوطة) ص 24 ب.
22- التنبئة ، ص 2أ ، ونحوه في مرقاة الصعود ، ص 189 ب.
23- الجامع الصغير ، ج1 ، ص 74.
24- ذكره السيوطي في مرقاة الصعود ، ص 189ب ، وفي التنبئة: 2أ ، والمناوي في فيض القدير ج2 ، ص 282 ، وصاحب عون المعبود ج4 ، ص 183 ، ط. هندية.. وغيرهم.
25- المقاصد الحسنة ، ص 121 ، ثم قال: (وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث) .
26- فيض القدير ج2 ص282.
27- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599.
وقال في صحيح الجامع: حديث صحيح ، ج2 ، ص 143 ، رقم 1870 ، ط: المكتب الإسلامي.
أما قوله: (رجال مسلم) فنعم ، وانظر في ذلك: تهذيب التهذيب ج6 ، ص71 ، ج4 ، ص7 ، ج4 ، ص 320 ، 323 ، 326 ، ج12 ، ص 173.
28- الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ، مخطوط ورق 85/ب ، 86/أ.
29- عن توالي التأسيس لابن حجر، مخطوطة، ورقة 24 / أ، والتنبئة ، ورقة 2 أ - ب.
30- أبو نعيم في الحلية 9/97، وأبو إسماعيل الهروي بواسطة التنبئة ورقة 2/ب، ولعله هو اللفظ الذي عناه الشيخ الألباني في إحالته السابقة إلى الهروي في ذم الكلام.
31- التنبئة ورقة 5/ب.
32- مقدمة فيض القدير للمناوي ، ج1 ، ص10.
33- أيضاً 1/12.
34- جامع الأصول ج11 ، ص 324 ، تحقيق: الأرنؤوط ، ط: الملاح.
35- فيض القدير 1/12 ، وانظر: عون المعبود 4/178 ، 180.
36- موجودة بكاملها في آخر رسالته (التنبئة) ، وموجودة في فيض القدير ج2 ، ص282، وعون المعبود 4/81.
37- التنبئة ص18/ب.
38- ومن هؤلاء: ابن السبكي في: طبقات الشافعية ، ج1 ، ص 202 ، حيث يرجح بعضهم لقرب وفاته من رأس المائة. وبدر الدين الأهدل في رسالته: (الرسالة المرضية في نصر مذهب الأشعرية) على ما نقله السيوطي في التنبئة ، ص 13/ب ، وانظر مستدرك الحاكم ج4 ، ص 522 ، 523.
39- انظر: عون المعبود ج4 ، ص 178 - 179 ، ط: الهندية.
40- معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج2 ، ص471 ، دار الكتب العلمية - إيران - قم.
41- الصحاح للجوهري ج3 ص933 ، دار العلم للملايين ، ومعجم مقاييس اللغة.
42- القاموس المحيط ج2 ، ص 226 ، ط2 الحلبي.
43- لسان العرب ج6 ، ص 91 ، ط: دار صادر.
44- حديث مرفوع رواه الترمذي في: 41 - كتاب الإيمان ، 8 - باب ما جاء في حرمة الصلاة ، حديث رقم 2616 ج5 ص12 ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
45- حديث مرفوع رواه مسلم في: 18 - كتاب الطلاق ، 9- باب وجوب الإحداد ، رقم 61 ج2 ص 126 ، وأبو داود في: 7 - الطلاق ، 43 - باب إحداد المتوفى عنها زوجها، رقم 2299 ، ج2 ص722 ، والترمذي في: 11 - كتاب الطلاق ، 18 - باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها ، رقم 1197 ، ج3 ص 492 ، والنسائي في الطلاق ، باب عدة المتوفى عنها زوجها 6/188 ، وليس فيه لفظ (رأس الحول) .
46- حديث: أرأيتكم ليلتكم.. رواه البخاري في صحيحه في:
أ - 3ـ كتاب العلم ، 41 - باب السمر في العلم ، حديث رقم 116 ، ج1 ، ص211 (مع الفتح ».
ب - 9 - مواقيت الصلاة ، 20 - باب ذكر العشاء والعتمة ، حديث 564 ، ج2 ، ص 45.
ج - 9 - مواقيت الصلاة أيضاً ، 40 - باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ، حديث 601 ، ج2 ، ص 73.
ورواه الإمام أحمد في (مسنده) ج2 ، ص88 ، ص121 ، ص131.
47 - انظر: توالي التأسيس ص 24/ب ، وفيض القدير ج1 ، ص10 ، وفتح الباري ج13، ص295..
48- التنبئة ص 18/ب.
49- بذل المجهود ج17 ، ص203.
50- رواه البخاري في 96 كتاب الاعتصام ، 10 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق رقم 7311 ، ورقم 7312 ، ج13 ، ص293.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان ، 7- باب نزول عيسى عليه السلام ، حديث رقم 156 ، ج1 ، ص137.
وفي: 33 - كتاب الإمارة ، 53 - باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة.. الخ ، رقم 1920 ، 1921 ، 1922 ، 1923 ، وقطعة من حديث في الزكاة بعد هذا الموضع وهي برقم 1037 ، 1924 ، 1925 ، ج3 ، ص1523 - 1525.
وأبو داود في كتاب الجهاد 4 باب دوام الجهاد ، رقم 2484 ، ج3 ، ص11 ، وفي: 29 - كتاب الفتن والملاحم ، 1 - باب ذكر الفتن ودلائلها ، رقم 4252 ، ج4 ، ص 452 ، والترمذي في 34 كتاب الفتن ، 37 - باب ما جاء في الشام ، حديث 2192 ، ج4 ، ص485، وقال: حسن صحيح وفي: 51 - باب ما جاء في الأئمة المضلين، حديث 2229، ج4 ، ص504 ، وقال أيضاً: حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في: المقدمة 1 - باب اتباع سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حديث 6 - 10 ج1 ، ص5 ، وفي 36 كتاب الفتن 9 - باب ما يكون من الفتن ، حديث 3952، ج3 ، ص1304.
ورواه الدارمي في 16 - كتاب الجهاد ، 39 - باب لا يزال طائفة من هذه الأمة... رقم 2437 ، 1438 ، ج2 ، ص2.
ورواه أحمد في مسنده: 5/34 ، 239 ، 278 ، 279.
ورواه الطبراني في مواضع هذه بعضها: ج2 ، ص 248 ، رقم 1922 ، ص250 ، رقم 1931، ص 265 ، رقم 1996 ، ص 269 ، رقم 2011 ، ج5 ، ص 185 ، رقم 1967 ، ج8 ، ص 171 ، رقم 7643 ، ج17 ، ص314 ، رقم 869 - 870 ، ج20 ، ص 318 ، رقم 754 ، ص402 ، رقم 959 - 960.
* مر تخريج أحاديثهم في الصفحة السابقة ، أما سلمة بن فضيل فأشار إلى حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ص 42 ، ط: مؤسسة الرسالة (مع الرد على الجهمية)، ورواه في تاريخه الكبير ج4 ص 71 ، وحديث شرحبيل في ، ج4 ، ص248.
51- سنن الترمذي ج4 ، ص485.
52- صحيح البخاري (مع الفتح) ج13 ، ص293.
التجديد في الإسلام
تمهيد:
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أوجد الله تبارك وتعالى الخـلــق على ظهر هذه البسيطة - بحكمته البالغة - ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؟ واقتضت حكـمـتــه سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة والصلاة والميل عن الشرك إلى التوحيد.
فأوجد البشر - أول ما أوجدهم على الحنيفية ، قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً))(1).
وقال: ((ومَا كَانَ النَّاسُ إلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)) (2).
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل:
»كل مال نحلته (3) عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم(4) عن دينهم وحرمت عليـهـم مـا أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً...« (5) الحديث.
وجعلهم - سبحانه - يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة المستقيمة ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -:
»ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جـدعـاء؟« ، ثـم يـقــول أبـو هريرة: واقرءوا إن شئتم: ((فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)) (6).
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (والفطرة: الإسـلام)(7).
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: »ما من مولود إلا على هذه الملة ، حتى يبين عنه لسانه« (8).
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقـع الحـيـاة ما علمه عنهم بسابق علمه سبحانه ؛ فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقين: الخير أو الـشـر ، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى ، وفي مقدورهم الانحراف عنها والميل إلى طـريــق الـضــلال.
وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه - في الجملة - ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - مبشرين ومنذرين ، بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة.
كما ابتلاهم - سبحانه بحكمته - بالشهوات والشبهات لتكون محكاً حقيقياً يكـشـف عن توجه الإنسان ومقصده ، والشياطين تزكي هذه وتلك وتؤز الإنسان للشر والمنكر أزاً.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير ، تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لـهـا الأدلــة الكونية والعقلية ، وقوة الشر ، تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية - بشكل أوسع - حيث يتميز المؤمنون أتباع الرسـل ، عـن المـجـرمـيـن أتـبـاع الـشـيـاطـيـن .. ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها.
ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلـيـن - عليهم الصلاة والسلام - ، الذين كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة ، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ إلهيةٍ جديدةٍ ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله ، حتى ختم الله الرسالات برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وانقطع بـمـوتــه - عـلـيـه الصلاة والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
* * *
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن ، ويـطــرأ عـلـيـهــا بمــرور الزمن ما يكدر صفائها ، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عـوامــل الانحـراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه ثم تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولـقــد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها - في قضايا الاعتقاد - حتى في حـيــاة رسـلـهــم - عليهم الصلاة والسلام - ، فكيف وقد ختمت الرسالات ، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟؟ وكيف بما دون تلك القضايا من أمور التشريع؟.
وإذا كان المنافقون والـضـالـون يجــدون مـن يسـتمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم رغم وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل القـيــادة الـسليمة والقدوة الصالحة ، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب ، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل ، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات المـضـلـلـة ، وخـفــت صــوت الحـق ، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين الأصوات ، ولا بين الألوان؟؟
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة أمر دينها ، وتجلي الحقائق الملتبسة ، وتحيي الفرائض المعطلة ، وتزيل ما علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّــر الحديث النبوي الشريف.
حديث المجدِّد:
قـال الإمــام أبـو داود - رحـمـه الله تعالي - (في سننه): حدثنا سليمان بن داود المُهري ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا سعد بن أبي أيوب ، عن شراحيل بن يزيد المعافري ، عن أبي علقمة ، عن أبي هريرة ، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
»إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها«.
قال أبو داود: (رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني ، لم يجز به شراحبيل)(9).
وهذا الحديث أخرجه أيضاً: الحـاكــم في مستدركه عن طريق الربيع بن سليمان بن كامل المرادي ، عن ابن وهب به (10).
ورواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن طريق عثمان بن صالح ، عن ابن وهب(11).
ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بـن ســواد ، وحرملـة بن يحيى ، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن وهب (12).
ومن طريقه - طريق ابن عدي - أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار) (13).
وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد (14).
ومن طريقه أخرجه البيهقي في (مناقب الشافعي) (15).
وعزاه السيوطي والسخاوي باللفظ السابق إلى الطبراني في (معجمه الأوسط) (16).
كما عزاه السيوطي إلى أبي نعيم ، والبزار ، ولعله لا يقصد الـحـديـث بلفظه السابق ، بل يقصد اللفظ الآخر الآتي قريباً إن شاء الله.
كما عزاه الألباني لعمرو الداني في (الفتن) 45/1 ، والـهــروي في ذم الكلام (ق / 111/2) وانظر اللفظ الآتي بعد قليل (17).
ورواه ان عساكر في (تبيين كذب المفتري) من طريق أبي داود ثم من طريق ابن عدي (18).
وقول الراوي: (فيما أعلم) ليس شكاً في رفع الحديث ، وإنما هــو مــن قـبـيــل التحرز في الرواية ، والتشدد في الأداء ، المعروف عند السلف.
وعلى فرض وقف الحديث فهو في حكم المرفوع ؛ لأنه مما لا يقال بالرأي المـجـــرد ؛ بل بالتوقف إذ هو إظهار عن أمر مستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبي داود: (ورواه عبد الرحمن بن شريح لم يجز به شراحيل) ، فهو يعـنــي أن عبد الرحمن قد أعضل الحديث فأسقط من إسناده أبا علقمة وأبا هريرة.
وطـريـق سعيد بن أبي أيوب المتصلة هي الراجحة وإن كان كلاهما ثقتين لأنها مــن بــاب زيادة الثقة ، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارضها ما هو أثبت منها ، وهذا الحاصل هنا ، فيتعين قبولها ، والمصير إليها.
وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه.
1- وسـكـــت عنه الحاكم ثم الذهبي كما في مطبوعه (المستدرك) ونقل غير واحد تصحيح الحاكم له منهم: السيوطي (19) ثم المناوي (20).
2- وقال ابن حجر - بعد سياق أقوال الأئمة في المجدِّد -:
(وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهوراً في ذلك العصر ، ففيه تقوية للسند المذكور ، مع أنه قوي لثقة رجاله)(21).
3- وقال السيوطي: (اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.. »ثم قال«: وأما المتقدمون فكلهم لهجوا بذكر هذا الحديث)(22).
ورمز لصحته في (الجامع الصغير) (23).
4- وقال الزين العراقي: سنده صحيح (24).
5- وقال السخاوي: سنده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات (25).
6- وقال المناوي: بإسناد صحيح (26).
7- وقال الألباني: والسند صحيح ، ورجاله ثقات ، رجال مسلم (27).
وبالجملة فقد اعتمده الـعـلماء: الزهري، وسفيان بن عيينة، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، والـنووي، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني، والحافظ الذهبي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ ولي الدين العراقي، وابن الجزري، وابن كثير، وابن الأثيـر، والسيوطـي، والسـخاوي، والمناوي، ومئات غير هؤلاء، كلهم اعتمدوا الحديث، واشتغلوا في تجديد من ينطبق عليهم الحديث.
ولم نعثر خلال البحث عن ضعَّف الحديث أو تكلم فيه ، فالحمد لله رب العالمين.
ألفاظ أخرى للحديث:
ورد الحديث بألفاظ أخرى مختلفة قليلاً أو كثيراً عن اللفظ المسوق من قبل.
فــرواه النحاس عن سفيان بن عيينة قال: (بلـغـنـي أنه يخرج في كل مائة سنة بعد موت رســـول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يقوي الله به الدين ، وإن يحيى بن آدم عندي منهم)(28).
وبنحوه أجره البزار (29).
وروى عنه بلفظ: »إن الله يمنُّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي، يبين لهم أمر دينهم« (30).
وألفاظ أخر غير هذه كثيرة تلتقي كلها عند الإمام أحمد ، وهي روايات مـعـلـقـة لم توجد موصولة في موضع آخر ولم يوقف على إسناده في شيء من الكتب ولا الأجزاء الحديـثية - كما قال السيوطي (31) - ولذا لا يعول على المعاني التي انفردت بها هذه الروايات مثل: كون المجدِّد فرضاً ، وكونه من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكونه على رأس المائة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر لفظ ابن عيينة - رحمه الله -.
3- بعض المعاني المستخرجة من الحديث:
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها أمته ، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين ، ويمنحه - فوق هذا - دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظاً من أجر المجدِّدين.
وسنقـف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث.
1- فأول ما يستوقف المتأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : »يبعث لهذه الأمــة« إن هذا المـبـعـوث لم يعد همه نفسه فحسب ، بل تجاوز ذلك ليعيش »لهذه الأمة« وسـواء كــان المقصود أمـــة الدعوة - على ما رآه قوم - أو أمة الإجابة - على ما رآه آخرون - ؛ فـإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطــوات الأمة المسلمة في معركة الحياة ، ومن ثم يحدث التوازن في مـسـيرة الحياة البشرية كلها ، ويأخذ الإسلام دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمــــة الإســـلامية بإيقاظها ، وإعادة ثقتها بدينها ، وردها إلى المنهج الصحيح.
وهـــو مجرد للبشرية كلها ، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير ، ويرضون بالدون ، فيكتفي أحدهم بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس!.
بل قد تعظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف ، وأقلق قلبه تـسـلـــــط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون ، فآلى على نـفـسـه أن يزاحمهم ما استـطــاع ، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفــوسـهــم الآمال والتطلعات كثيرون ، ولكنهم يتناقدون ويتساقـطـون واحداً بعد الآخر كما تقدمت بـهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون ؛ لأنهم صابروا العقبات وغالبوها حتى غلبوها ؛ لأن همتهم كانت أعظم مـن تلـك العقـبــــات: كانت تجديد الدين لهذه الأمة ، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم ، مع تحقيق معنى انتمائهم للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي ، ويمارسون دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
2- أما »البعث« المذكور أنه يكون على رأس المائة ، فإن البعث هو الإثارة والإرسال ، فيكون المعنى: (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجدداً ، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام ، وينتصب لنشر الأحكام)(32).
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة ، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن وقال: (وموته على رأس القرن أخذ لا بعث)(33).
قال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر من: انقضت المـائـــة وهـو حــــي، عالم مشهور مشار إليه)(34).
وقال الكرماني والطيبي مثل ذلك (35).
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار المجدِّدين)(36):
والـشــرط في ذلك أن تمضي المائــة وهــــــو عـلــى حياته بين الفئة
يـشـار بالـعـلــــم إلـى مـقــامــــــه وينـصــر السـنـة في كلامه (37).
وكذلك لا نعلم دليلاً في اشتراط كون وفاة المجدد في بداية القرن التالي أو بعده بقليل ، كما يلحظ في منهج كثير ممن تصدوا لتعيين المجددين ؛ حيث يـستـبـعـــدون بـعـض الأئـمــة محتجين بأن وفاته تأخرت إلى العشرين مثلاً أو الثلاثين بعد المائة مثلاً (38).
وسواء كان بعث المجدد في نهاية القرن السابق ، أو في بداية القرن اللاحق فليس ثمة ما يدل على ضرورة اشتراط وفاته في تلك الفترة.
وهذا كله على اعتبار أن المجدد فرد واحد ، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة مفصلاً بعد قليل - بإذن الله -.
3- أما المقصود بـ (الرأس) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : »على رأس كل مائة سنة«، قد قال بعضهم: يعني في أولها ، وقال آخرون: بل في آخرها (39).
وأصل مادة »رأس« في اللغة تدل على التجمع والارتفاع (40).
وتستعمل هذه المادة في الوجهين في أول الشيء وفي آخره ؛ فتقول: أعد علي كلامـــك من رأسٍ ، وأنت على رئاس أمرك ، بمعنى: أوله (41).
ومثله: رأس المال ، أي: أصله وأوله (42).
وتقول: القافية رأس البيت ، بمعنى: آخره (43).
وجاء في الشرع الوجهان: فمن الأول: رأس الأمر الإسلام (44) ، بمعنى: أوله ورأسه.
ومن الثاني: قد كانت إحداكن ترمي البعرة عند رأس الحول (45) ، يعني: في آخره.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : »أرأيتم ليلتكم هذه؟ على رأس مائة سنة مـنـهـا لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدِ« (46).
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملاً لـلـوجـهين ، فهذا عــمـر بن عبـد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة 99 هـ ، وتوفي - رحمه الله - سـنـــة 101 هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي - رحمه الله - سنة 204 هـ ، ولعل القضية تقريبية لا تحتمل الـحـسـم الـقـاطــع بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد ثم مات قبل تمام المائة بخمسة أيام يكون مجدداً!..
ولـعــل مــا يلـتـحـق بهذا معرفة مبدأ المائة: من أين يكون؟ أمن مولده - صلى الله عليه
وسلم - ؟ أم من بعثته؟ أم من هجرته؟ أم من وقت نطقه بذلك الحديث؟ أم من وفاته؟.
ولا نحب أن نـدخـل في جدل حول هذه الأمور - وإن كان الترجيح بينها ممكناً - ولكننا نقول:
إن بداية أي قرن تتصل بنهاية القرن الذي قبله ، ومما لا يتلاءم مع طريقة الشرع اعتبار الفصل بينهما بصورة قاطـعة ؛ ذلك أن الشرع حتى في الأمور العبادية كالصلاة والصيـــام والحج وغيرها علق ذلك على أمور ظاهرة مدركة لجمهور الناس.. فكيف بما ليس كذلــك ولا يدخل فيه تعبد؟.
الظاهر - والله أعلم - أن عدم تحديد المقصود بالرأس ، وعدم تحديد المبتدأ.. كـــل ذلك أمرٌ مقصود فيه أن المجدد يظهر كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة ، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
وهذا ينسجم مع الأحداث التاريخية كلها ؛ فإنها تسير بقدر الله تعالى على دفــــع مـــا تقتضيه الأسباب - غالباً - غير مقيدة أو محددة بفترات معينة.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم ودنياهم ، والتي يفـتـقــر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا موقوفة بأزمنة خاصة.
وفي تلك الـنـكـبــات تتجلى رحمة الله بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - حيث ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور.
كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زماناً ومكاناً ما يجعله حياً في الأجيال التالية بعلمه وعمله ، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد انتهت.
وإن من شأن هذا الـتـصــــور الذي عرضناه ، وهذا الرأي الذي اخترناه أن ترد الأمور إلى نصابها فبحسب من أحـيـــا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهراً ملموساً للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت عن رأس القرن.
4- أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : »من يجدِّد لها دينها«.
فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
هل الـمـقـصـود بذلك فـرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟.
فأما لفظ »مَنْ« فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة - من حيث اللفظ - ، ومن حيث المراد بها في الـحـديــث قال بعضهم: المقصود بها فردٌ ، وحملوا »مَنْ« في هذه الرواية على لفظ (رجل) ، أو (عالم »في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها (47).
واختار هذا الرأي عدد من العلماء ، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال:
وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث ، والجمهور (48)
ونسبه غيره إلى (العلماء)(49).
واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والـذهـبـي، والـمـنــاوي، والعظيم آبادي ، وغيرهم ، وسيأتي بسط كلامهم.
وقبل الدخول في محــاولة الـتــرجـيـح نرى التقديم بحديثين فيهما بشريان أخريان لهـذه الأمة:
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: »لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله« (50).
وهذا الحديث عظيم مشهور، بل يصلح أن يدعى فيه التواتر، فقد ورد من طرق كثيرة جداً عن عدد من الصحابة منهم:
عمران بن حصين، وثوبان، وقرة بن إيـــاس، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبــو عـتـبـة الـخـولانــي، وعمر بن الخطاب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، ومرة البهزي ، وسلمة بن نفيل (*) السكوني ، وشرحبيل بن السَّمْط الكندي (*).
قال الترمذي: (وفي الباب عن عـبد الله حوالة ، وابن عـمـر ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو)(51).
فهؤلاء إحدى وعشرون نفساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، رواه عنهم عدد لا يحصون كثرة من التابعين ، مع أننا لم نسلك مسلك الاستقصاء.
وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والــوهـن والاختلاف حتى لا يبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق المقاتلة دونه ، القاهرة لعدوها ، الصـابــرة ، فلا يضرّها من خذلها ، ولا من ناوأها ، إلا ما يصيبها من اللأواء حتى يكون آخرهم مع عيسى ابن مريم يقاتلون الدجال.
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحـديــث: (بـاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، وهم أهل العلم)(52).
الهوامش:
1- البقرة آية 213.
2- يونس آية 19.
3- نحلته: أعطيته.
4- اجتالتهم: صرفتهم عن هداهم إلى ضلالتها وأخذتهم بأن يجولوا معها واختارتهم لأنفسها (أساس البلاغة).
5- رواه مسلم في: 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. 16 - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار ، حديث رقم 63 ، الرقم العام 2865 ، ج4 ص2197 ، ط: عبد الباقي ، رواه أحمد في (المسند) ج4 ، ص 162 ضمن حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه -.
6- الآية من سورة الروم ، رقم الآية 30 ، والحديث رواه البخاري في: 23 - كتاب الجنائز ، 92 - باب ما قيل في أولاد المشركين. حديث 1385 ، الفتح 3/ 245 - 246.
ورواه أيضاً في: 65 - كتاب التفسير ، باب لا تبديل لخلق الله ، رقم: 4775 ، ج8 ، ص12 ، ورواه أيضاً في 82 - كتاب القدر ، 3 - باب: الله أعلم بما كانوا عاملين ، رقم 6599 ، ج11 ، ص 93. ورواه مسلم في: 46 - كتاب القدر. 6 - باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة ، رقم 2658 ، ج4 ، ص 47 ، ورواه أحمد في مواضع: 2/315 ، 346 - 347 ، 275.
7- في الموضع السابق من كتاب التفسير 8/512.
8- هذا أحد ألفاظ مسلم.
9- أبو داود: 31 - كتاب الملاحم ، 1 - باب ما يذكر في قرن المائة ، حديث 291 ، ج4 ، ص480 ، ط3.
10- المستدرك: كتاب الفقه والملاحم ج4 ، ص 522 ، دار الفكر.
11- تاريخ بغداد ج2 ، ص 61 ، نشر دار الكتاب العربي.
12- المقدمة ص 181 - 183 ، تحقيق: السامراني ، ط: الأعظمي ببغداد ، وج1 ، ص123 ، ط: دار الفكر.
13- ج1 ، ص 137 ، تحقيق: سيد أحمد صقر ، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
14- ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس) ص 240 من المخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم 106 مجاميع.
وتابعه على ذلك المصنفون من بعده كالسيوطي ، والعظيم أبادي صاحب (عون المعبود).
15- ج1 ، ص 53 ، تحقيق: أحمد صقر ، ط: دار التراث.
16- السيوطي في رسالته المخطوطة: (التنبئة فيمن يبعث الله على رأس كل مائة) ص 2أ. والسخاوي في (المقاصد الحسنة »ص 122 ، حديث 238 ، ط: دار الكتب العلمية.
17- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599 ، المكتب الإسلامي.
18- ص 51 ، 52 ، ط: القدسي ، عام 1399 هـ.
19- السيوطي في (التنبئة) ص 2أ ، وفي شرحه (مرقاة الصعود على سنن أبي داود) ص 189ب (مخطوطتان).
20- فيض القدير ج2 ، ص 282.
21- توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس (المخطوطة) ص 24 ب.
22- التنبئة ، ص 2أ ، ونحوه في مرقاة الصعود ، ص 189 ب.
23- الجامع الصغير ، ج1 ، ص 74.
24- ذكره السيوطي في مرقاة الصعود ، ص 189ب ، وفي التنبئة: 2أ ، والمناوي في فيض القدير ج2 ، ص 282 ، وصاحب عون المعبود ج4 ، ص 183 ، ط. هندية.. وغيرهم.
25- المقاصد الحسنة ، ص 121 ، ثم قال: (وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث) .
26- فيض القدير ج2 ص282.
27- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599.
وقال في صحيح الجامع: حديث صحيح ، ج2 ، ص 143 ، رقم 1870 ، ط: المكتب الإسلامي.
أما قوله: (رجال مسلم) فنعم ، وانظر في ذلك: تهذيب التهذيب ج6 ، ص71 ، ج4 ، ص7 ، ج4 ، ص 320 ، 323 ، 326 ، ج12 ، ص 173.
28- الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ، مخطوط ورق 85/ب ، 86/أ.
29- عن توالي التأسيس لابن حجر، مخطوطة، ورقة 24 / أ، والتنبئة ، ورقة 2 أ - ب.
30- أبو نعيم في الحلية 9/97، وأبو إسماعيل الهروي بواسطة التنبئة ورقة 2/ب، ولعله هو اللفظ الذي عناه الشيخ الألباني في إحالته السابقة إلى الهروي في ذم الكلام.
31- التنبئة ورقة 5/ب.
32- مقدمة فيض القدير للمناوي ، ج1 ، ص10.
33- أيضاً 1/12.
34- جامع الأصول ج11 ، ص 324 ، تحقيق: الأرنؤوط ، ط: الملاح.
35- فيض القدير 1/12 ، وانظر: عون المعبود 4/178 ، 180.
36- موجودة بكاملها في آخر رسالته (التنبئة) ، وموجودة في فيض القدير ج2 ، ص282، وعون المعبود 4/81.
37- التنبئة ص18/ب.
38- ومن هؤلاء: ابن السبكي في: طبقات الشافعية ، ج1 ، ص 202 ، حيث يرجح بعضهم لقرب وفاته من رأس المائة. وبدر الدين الأهدل في رسالته: (الرسالة المرضية في نصر مذهب الأشعرية) على ما نقله السيوطي في التنبئة ، ص 13/ب ، وانظر مستدرك الحاكم ج4 ، ص 522 ، 523.
39- انظر: عون المعبود ج4 ، ص 178 - 179 ، ط: الهندية.
40- معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج2 ، ص471 ، دار الكتب العلمية - إيران - قم.
41- الصحاح للجوهري ج3 ص933 ، دار العلم للملايين ، ومعجم مقاييس اللغة.
42- القاموس المحيط ج2 ، ص 226 ، ط2 الحلبي.
43- لسان العرب ج6 ، ص 91 ، ط: دار صادر.
44- حديث مرفوع رواه الترمذي في: 41 - كتاب الإيمان ، 8 - باب ما جاء في حرمة الصلاة ، حديث رقم 2616 ج5 ص12 ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
45- حديث مرفوع رواه مسلم في: 18 - كتاب الطلاق ، 9- باب وجوب الإحداد ، رقم 61 ج2 ص 126 ، وأبو داود في: 7 - الطلاق ، 43 - باب إحداد المتوفى عنها زوجها، رقم 2299 ، ج2 ص722 ، والترمذي في: 11 - كتاب الطلاق ، 18 - باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها ، رقم 1197 ، ج3 ص 492 ، والنسائي في الطلاق ، باب عدة المتوفى عنها زوجها 6/188 ، وليس فيه لفظ (رأس الحول) .
46- حديث: أرأيتكم ليلتكم.. رواه البخاري في صحيحه في:
أ - 3ـ كتاب العلم ، 41 - باب السمر في العلم ، حديث رقم 116 ، ج1 ، ص211 (مع الفتح ».
ب - 9 - مواقيت الصلاة ، 20 - باب ذكر العشاء والعتمة ، حديث 564 ، ج2 ، ص 45.
ج - 9 - مواقيت الصلاة أيضاً ، 40 - باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ، حديث 601 ، ج2 ، ص 73.
ورواه الإمام أحمد في (مسنده) ج2 ، ص88 ، ص121 ، ص131.
47 - انظر: توالي التأسيس ص 24/ب ، وفيض القدير ج1 ، ص10 ، وفتح الباري ج13، ص295..
48- التنبئة ص 18/ب.
49- بذل المجهود ج17 ، ص203.
50- رواه البخاري في 96 كتاب الاعتصام ، 10 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق رقم 7311 ، ورقم 7312 ، ج13 ، ص293.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان ، 7- باب نزول عيسى عليه السلام ، حديث رقم 156 ، ج1 ، ص137.
وفي: 33 - كتاب الإمارة ، 53 - باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة.. الخ ، رقم 1920 ، 1921 ، 1922 ، 1923 ، وقطعة من حديث في الزكاة بعد هذا الموضع وهي برقم 1037 ، 1924 ، 1925 ، ج3 ، ص1523 - 1525.
وأبو داود في كتاب الجهاد 4 باب دوام الجهاد ، رقم 2484 ، ج3 ، ص11 ، وفي: 29 - كتاب الفتن والملاحم ، 1 - باب ذكر الفتن ودلائلها ، رقم 4252 ، ج4 ، ص 452 ، والترمذي في 34 كتاب الفتن ، 37 - باب ما جاء في الشام ، حديث 2192 ، ج4 ، ص485، وقال: حسن صحيح وفي: 51 - باب ما جاء في الأئمة المضلين، حديث 2229، ج4 ، ص504 ، وقال أيضاً: حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في: المقدمة 1 - باب اتباع سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حديث 6 - 10 ج1 ، ص5 ، وفي 36 كتاب الفتن 9 - باب ما يكون من الفتن ، حديث 3952، ج3 ، ص1304.
ورواه الدارمي في 16 - كتاب الجهاد ، 39 - باب لا يزال طائفة من هذه الأمة... رقم 2437 ، 1438 ، ج2 ، ص2.
ورواه أحمد في مسنده: 5/34 ، 239 ، 278 ، 279.
ورواه الطبراني في مواضع هذه بعضها: ج2 ، ص 248 ، رقم 1922 ، ص250 ، رقم 1931، ص 265 ، رقم 1996 ، ص 269 ، رقم 2011 ، ج5 ، ص 185 ، رقم 1967 ، ج8 ، ص 171 ، رقم 7643 ، ج17 ، ص314 ، رقم 869 - 870 ، ج20 ، ص 318 ، رقم 754 ، ص402 ، رقم 959 - 960.
* مر تخريج أحاديثهم في الصفحة السابقة ، أما سلمة بن فضيل فأشار إلى حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ص 42 ، ط: مؤسسة الرسالة (مع الرد على الجهمية)، ورواه في تاريخه الكبير ج4 ص 71 ، وحديث شرحبيل في ، ج4 ، ص248.
51- سنن الترمذي ج4 ، ص485.
52- صحيح البخاري (مع الفتح) ج13 ، ص293.
4
تمهيد:
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أوجد الله تبارك وتعالى الخـلــق على ظهر هذه البسيطة - بحكمته البالغة - ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؟ واقتضت حكـمـتــه سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة والصلاة والميل عن الشرك إلى التوحيد.
فأوجد البشر - أول ما أوجدهم على الحنيفية ، قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً))(1).
وقال: ((ومَا كَانَ النَّاسُ إلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)) (2).
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل:
»كل مال نحلته (3) عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم(4) عن دينهم وحرمت عليـهـم مـا أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً...« (5) الحديث.
وجعلهم - سبحانه - يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة المستقيمة ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -:
»ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جـدعـاء؟« ، ثـم يـقــول أبـو هريرة: واقرءوا إن شئتم: ((فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)) (6).
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (والفطرة: الإسـلام)(7).
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: »ما من مولود إلا على هذه الملة ، حتى يبين عنه لسانه« (8).
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقـع الحـيـاة ما علمه عنهم بسابق علمه سبحانه ؛ فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقين: الخير أو الـشـر ، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى ، وفي مقدورهم الانحراف عنها والميل إلى طـريــق الـضــلال.
وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه - في الجملة - ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - مبشرين ومنذرين ، بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة.
كما ابتلاهم - سبحانه بحكمته - بالشهوات والشبهات لتكون محكاً حقيقياً يكـشـف عن توجه الإنسان ومقصده ، والشياطين تزكي هذه وتلك وتؤز الإنسان للشر والمنكر أزاً.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير ، تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لـهـا الأدلــة الكونية والعقلية ، وقوة الشر ، تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية - بشكل أوسع - حيث يتميز المؤمنون أتباع الرسـل ، عـن المـجـرمـيـن أتـبـاع الـشـيـاطـيـن .. ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها.
ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلـيـن - عليهم الصلاة والسلام - ، الذين كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة ، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ إلهيةٍ جديدةٍ ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله ، حتى ختم الله الرسالات برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وانقطع بـمـوتــه - عـلـيـه الصلاة والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
* * *
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن ، ويـطــرأ عـلـيـهــا بمــرور الزمن ما يكدر صفائها ، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عـوامــل الانحـراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه ثم تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولـقــد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها - في قضايا الاعتقاد - حتى في حـيــاة رسـلـهــم - عليهم الصلاة والسلام - ، فكيف وقد ختمت الرسالات ، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟؟ وكيف بما دون تلك القضايا من أمور التشريع؟.
وإذا كان المنافقون والـضـالـون يجــدون مـن يسـتمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم رغم وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل القـيــادة الـسليمة والقدوة الصالحة ، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب ، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل ، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات المـضـلـلـة ، وخـفــت صــوت الحـق ، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين الأصوات ، ولا بين الألوان؟؟
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة أمر دينها ، وتجلي الحقائق الملتبسة ، وتحيي الفرائض المعطلة ، وتزيل ما علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّــر الحديث النبوي الشريف.
حديث المجدِّد:
قـال الإمــام أبـو داود - رحـمـه الله تعالي - (في سننه): حدثنا سليمان بن داود المُهري ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا سعد بن أبي أيوب ، عن شراحيل بن يزيد المعافري ، عن أبي علقمة ، عن أبي هريرة ، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
»إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها«.
قال أبو داود: (رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني ، لم يجز به شراحبيل)(9).
وهذا الحديث أخرجه أيضاً: الحـاكــم في مستدركه عن طريق الربيع بن سليمان بن كامل المرادي ، عن ابن وهب به (10).
ورواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن طريق عثمان بن صالح ، عن ابن وهب(11).
ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بـن ســواد ، وحرملـة بن يحيى ، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن وهب (12).
ومن طريقه - طريق ابن عدي - أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار) (13).
وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد (14).
ومن طريقه أخرجه البيهقي في (مناقب الشافعي) (15).
وعزاه السيوطي والسخاوي باللفظ السابق إلى الطبراني في (معجمه الأوسط) (16).
كما عزاه السيوطي إلى أبي نعيم ، والبزار ، ولعله لا يقصد الـحـديـث بلفظه السابق ، بل يقصد اللفظ الآخر الآتي قريباً إن شاء الله.
كما عزاه الألباني لعمرو الداني في (الفتن) 45/1 ، والـهــروي في ذم الكلام (ق / 111/2) وانظر اللفظ الآتي بعد قليل (17).
ورواه ان عساكر في (تبيين كذب المفتري) من طريق أبي داود ثم من طريق ابن عدي (18).
وقول الراوي: (فيما أعلم) ليس شكاً في رفع الحديث ، وإنما هــو مــن قـبـيــل التحرز في الرواية ، والتشدد في الأداء ، المعروف عند السلف.
وعلى فرض وقف الحديث فهو في حكم المرفوع ؛ لأنه مما لا يقال بالرأي المـجـــرد ؛ بل بالتوقف إذ هو إظهار عن أمر مستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبي داود: (ورواه عبد الرحمن بن شريح لم يجز به شراحيل) ، فهو يعـنــي أن عبد الرحمن قد أعضل الحديث فأسقط من إسناده أبا علقمة وأبا هريرة.
وطـريـق سعيد بن أبي أيوب المتصلة هي الراجحة وإن كان كلاهما ثقتين لأنها مــن بــاب زيادة الثقة ، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارضها ما هو أثبت منها ، وهذا الحاصل هنا ، فيتعين قبولها ، والمصير إليها.
وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه.
1- وسـكـــت عنه الحاكم ثم الذهبي كما في مطبوعه (المستدرك) ونقل غير واحد تصحيح الحاكم له منهم: السيوطي (19) ثم المناوي (20).
2- وقال ابن حجر - بعد سياق أقوال الأئمة في المجدِّد -:
(وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهوراً في ذلك العصر ، ففيه تقوية للسند المذكور ، مع أنه قوي لثقة رجاله)(21).
3- وقال السيوطي: (اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.. »ثم قال«: وأما المتقدمون فكلهم لهجوا بذكر هذا الحديث)(22).
ورمز لصحته في (الجامع الصغير) (23).
4- وقال الزين العراقي: سنده صحيح (24).
5- وقال السخاوي: سنده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات (25).
6- وقال المناوي: بإسناد صحيح (26).
7- وقال الألباني: والسند صحيح ، ورجاله ثقات ، رجال مسلم (27).
وبالجملة فقد اعتمده الـعـلماء: الزهري، وسفيان بن عيينة، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، والـنووي، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني، والحافظ الذهبي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ ولي الدين العراقي، وابن الجزري، وابن كثير، وابن الأثيـر، والسيوطـي، والسـخاوي، والمناوي، ومئات غير هؤلاء، كلهم اعتمدوا الحديث، واشتغلوا في تجديد من ينطبق عليهم الحديث.
ولم نعثر خلال البحث عن ضعَّف الحديث أو تكلم فيه ، فالحمد لله رب العالمين.
ألفاظ أخرى للحديث:
ورد الحديث بألفاظ أخرى مختلفة قليلاً أو كثيراً عن اللفظ المسوق من قبل.
فــرواه النحاس عن سفيان بن عيينة قال: (بلـغـنـي أنه يخرج في كل مائة سنة بعد موت رســـول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يقوي الله به الدين ، وإن يحيى بن آدم عندي منهم)(28).
وبنحوه أجره البزار (29).
وروى عنه بلفظ: »إن الله يمنُّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي، يبين لهم أمر دينهم« (30).
وألفاظ أخر غير هذه كثيرة تلتقي كلها عند الإمام أحمد ، وهي روايات مـعـلـقـة لم توجد موصولة في موضع آخر ولم يوقف على إسناده في شيء من الكتب ولا الأجزاء الحديـثية - كما قال السيوطي (31) - ولذا لا يعول على المعاني التي انفردت بها هذه الروايات مثل: كون المجدِّد فرضاً ، وكونه من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكونه على رأس المائة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر لفظ ابن عيينة - رحمه الله -.
3- بعض المعاني المستخرجة من الحديث:
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها أمته ، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين ، ويمنحه - فوق هذا - دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظاً من أجر المجدِّدين.
وسنقـف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث.
1- فأول ما يستوقف المتأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : »يبعث لهذه الأمــة« إن هذا المـبـعـوث لم يعد همه نفسه فحسب ، بل تجاوز ذلك ليعيش »لهذه الأمة« وسـواء كــان المقصود أمـــة الدعوة - على ما رآه قوم - أو أمة الإجابة - على ما رآه آخرون - ؛ فـإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطــوات الأمة المسلمة في معركة الحياة ، ومن ثم يحدث التوازن في مـسـيرة الحياة البشرية كلها ، ويأخذ الإسلام دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمــــة الإســـلامية بإيقاظها ، وإعادة ثقتها بدينها ، وردها إلى المنهج الصحيح.
وهـــو مجرد للبشرية كلها ، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير ، ويرضون بالدون ، فيكتفي أحدهم بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس!.
بل قد تعظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف ، وأقلق قلبه تـسـلـــــط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون ، فآلى على نـفـسـه أن يزاحمهم ما استـطــاع ، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفــوسـهــم الآمال والتطلعات كثيرون ، ولكنهم يتناقدون ويتساقـطـون واحداً بعد الآخر كما تقدمت بـهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون ؛ لأنهم صابروا العقبات وغالبوها حتى غلبوها ؛ لأن همتهم كانت أعظم مـن تلـك العقـبــــات: كانت تجديد الدين لهذه الأمة ، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم ، مع تحقيق معنى انتمائهم للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي ، ويمارسون دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
2- أما »البعث« المذكور أنه يكون على رأس المائة ، فإن البعث هو الإثارة والإرسال ، فيكون المعنى: (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجدداً ، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام ، وينتصب لنشر الأحكام)(32).
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة ، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن وقال: (وموته على رأس القرن أخذ لا بعث)(33).
قال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر من: انقضت المـائـــة وهـو حــــي، عالم مشهور مشار إليه)(34).
وقال الكرماني والطيبي مثل ذلك (35).
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار المجدِّدين)(36):
والـشــرط في ذلك أن تمضي المائــة وهــــــو عـلــى حياته بين الفئة
يـشـار بالـعـلــــم إلـى مـقــامــــــه وينـصــر السـنـة في كلامه (37).
وكذلك لا نعلم دليلاً في اشتراط كون وفاة المجدد في بداية القرن التالي أو بعده بقليل ، كما يلحظ في منهج كثير ممن تصدوا لتعيين المجددين ؛ حيث يـستـبـعـــدون بـعـض الأئـمــة محتجين بأن وفاته تأخرت إلى العشرين مثلاً أو الثلاثين بعد المائة مثلاً (38).
وسواء كان بعث المجدد في نهاية القرن السابق ، أو في بداية القرن اللاحق فليس ثمة ما يدل على ضرورة اشتراط وفاته في تلك الفترة.
وهذا كله على اعتبار أن المجدد فرد واحد ، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة مفصلاً بعد قليل - بإذن الله -.
3- أما المقصود بـ (الرأس) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : »على رأس كل مائة سنة«، قد قال بعضهم: يعني في أولها ، وقال آخرون: بل في آخرها (39).
وأصل مادة »رأس« في اللغة تدل على التجمع والارتفاع (40).
وتستعمل هذه المادة في الوجهين في أول الشيء وفي آخره ؛ فتقول: أعد علي كلامـــك من رأسٍ ، وأنت على رئاس أمرك ، بمعنى: أوله (41).
ومثله: رأس المال ، أي: أصله وأوله (42).
وتقول: القافية رأس البيت ، بمعنى: آخره (43).
وجاء في الشرع الوجهان: فمن الأول: رأس الأمر الإسلام (44) ، بمعنى: أوله ورأسه.
ومن الثاني: قد كانت إحداكن ترمي البعرة عند رأس الحول (45) ، يعني: في آخره.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : »أرأيتم ليلتكم هذه؟ على رأس مائة سنة مـنـهـا لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدِ« (46).
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملاً لـلـوجـهين ، فهذا عــمـر بن عبـد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة 99 هـ ، وتوفي - رحمه الله - سـنـــة 101 هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي - رحمه الله - سنة 204 هـ ، ولعل القضية تقريبية لا تحتمل الـحـسـم الـقـاطــع بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد ثم مات قبل تمام المائة بخمسة أيام يكون مجدداً!..
ولـعــل مــا يلـتـحـق بهذا معرفة مبدأ المائة: من أين يكون؟ أمن مولده - صلى الله عليه
وسلم - ؟ أم من بعثته؟ أم من هجرته؟ أم من وقت نطقه بذلك الحديث؟ أم من وفاته؟.
ولا نحب أن نـدخـل في جدل حول هذه الأمور - وإن كان الترجيح بينها ممكناً - ولكننا نقول:
إن بداية أي قرن تتصل بنهاية القرن الذي قبله ، ومما لا يتلاءم مع طريقة الشرع اعتبار الفصل بينهما بصورة قاطـعة ؛ ذلك أن الشرع حتى في الأمور العبادية كالصلاة والصيـــام والحج وغيرها علق ذلك على أمور ظاهرة مدركة لجمهور الناس.. فكيف بما ليس كذلــك ولا يدخل فيه تعبد؟.
الظاهر - والله أعلم - أن عدم تحديد المقصود بالرأس ، وعدم تحديد المبتدأ.. كـــل ذلك أمرٌ مقصود فيه أن المجدد يظهر كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة ، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
وهذا ينسجم مع الأحداث التاريخية كلها ؛ فإنها تسير بقدر الله تعالى على دفــــع مـــا تقتضيه الأسباب - غالباً - غير مقيدة أو محددة بفترات معينة.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم ودنياهم ، والتي يفـتـقــر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا موقوفة بأزمنة خاصة.
وفي تلك الـنـكـبــات تتجلى رحمة الله بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - حيث ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور.
كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زماناً ومكاناً ما يجعله حياً في الأجيال التالية بعلمه وعمله ، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد انتهت.
وإن من شأن هذا الـتـصــــور الذي عرضناه ، وهذا الرأي الذي اخترناه أن ترد الأمور إلى نصابها فبحسب من أحـيـــا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهراً ملموساً للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت عن رأس القرن.
4- أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : »من يجدِّد لها دينها«.
فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
هل الـمـقـصـود بذلك فـرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟.
فأما لفظ »مَنْ« فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة - من حيث اللفظ - ، ومن حيث المراد بها في الـحـديــث قال بعضهم: المقصود بها فردٌ ، وحملوا »مَنْ« في هذه الرواية على لفظ (رجل) ، أو (عالم »في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها (47).
واختار هذا الرأي عدد من العلماء ، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال:
وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث ، والجمهور (48)
ونسبه غيره إلى (العلماء)(49).
واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والـذهـبـي، والـمـنــاوي، والعظيم آبادي ، وغيرهم ، وسيأتي بسط كلامهم.
وقبل الدخول في محــاولة الـتــرجـيـح نرى التقديم بحديثين فيهما بشريان أخريان لهـذه الأمة:
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: »لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله« (50).
وهذا الحديث عظيم مشهور، بل يصلح أن يدعى فيه التواتر، فقد ورد من طرق كثيرة جداً عن عدد من الصحابة منهم:
عمران بن حصين، وثوبان، وقرة بن إيـــاس، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبــو عـتـبـة الـخـولانــي، وعمر بن الخطاب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، ومرة البهزي ، وسلمة بن نفيل (*) السكوني ، وشرحبيل بن السَّمْط الكندي (*).
قال الترمذي: (وفي الباب عن عـبد الله حوالة ، وابن عـمـر ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو)(51).
فهؤلاء إحدى وعشرون نفساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، رواه عنهم عدد لا يحصون كثرة من التابعين ، مع أننا لم نسلك مسلك الاستقصاء.
وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والــوهـن والاختلاف حتى لا يبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق المقاتلة دونه ، القاهرة لعدوها ، الصـابــرة ، فلا يضرّها من خذلها ، ولا من ناوأها ، إلا ما يصيبها من اللأواء حتى يكون آخرهم مع عيسى ابن مريم يقاتلون الدجال.
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحـديــث: (بـاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، وهم أهل العلم)(52).
الهوامش:
1- البقرة آية 213.
2- يونس آية 19.
3- نحلته: أعطيته.
4- اجتالتهم: صرفتهم عن هداهم إلى ضلالتها وأخذتهم بأن يجولوا معها واختارتهم لأنفسها (أساس البلاغة).
5- رواه مسلم في: 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. 16 - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار ، حديث رقم 63 ، الرقم العام 2865 ، ج4 ص2197 ، ط: عبد الباقي ، رواه أحمد في (المسند) ج4 ، ص 162 ضمن حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه -.
6- الآية من سورة الروم ، رقم الآية 30 ، والحديث رواه البخاري في: 23 - كتاب الجنائز ، 92 - باب ما قيل في أولاد المشركين. حديث 1385 ، الفتح 3/ 245 - 246.
ورواه أيضاً في: 65 - كتاب التفسير ، باب لا تبديل لخلق الله ، رقم: 4775 ، ج8 ، ص12 ، ورواه أيضاً في 82 - كتاب القدر ، 3 - باب: الله أعلم بما كانوا عاملين ، رقم 6599 ، ج11 ، ص 93. ورواه مسلم في: 46 - كتاب القدر. 6 - باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة ، رقم 2658 ، ج4 ، ص 47 ، ورواه أحمد في مواضع: 2/315 ، 346 - 347 ، 275.
7- في الموضع السابق من كتاب التفسير 8/512.
8- هذا أحد ألفاظ مسلم.
9- أبو داود: 31 - كتاب الملاحم ، 1 - باب ما يذكر في قرن المائة ، حديث 291 ، ج4 ، ص480 ، ط3.
10- المستدرك: كتاب الفقه والملاحم ج4 ، ص 522 ، دار الفكر.
11- تاريخ بغداد ج2 ، ص 61 ، نشر دار الكتاب العربي.
12- المقدمة ص 181 - 183 ، تحقيق: السامراني ، ط: الأعظمي ببغداد ، وج1 ، ص123 ، ط: دار الفكر.
13- ج1 ، ص 137 ، تحقيق: سيد أحمد صقر ، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
14- ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس) ص 240 من المخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم 106 مجاميع.
وتابعه على ذلك المصنفون من بعده كالسيوطي ، والعظيم أبادي صاحب (عون المعبود).
15- ج1 ، ص 53 ، تحقيق: أحمد صقر ، ط: دار التراث.
16- السيوطي في رسالته المخطوطة: (التنبئة فيمن يبعث الله على رأس كل مائة) ص 2أ. والسخاوي في (المقاصد الحسنة »ص 122 ، حديث 238 ، ط: دار الكتب العلمية.
17- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599 ، المكتب الإسلامي.
18- ص 51 ، 52 ، ط: القدسي ، عام 1399 هـ.
19- السيوطي في (التنبئة) ص 2أ ، وفي شرحه (مرقاة الصعود على سنن أبي داود) ص 189ب (مخطوطتان).
20- فيض القدير ج2 ، ص 282.
21- توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس (المخطوطة) ص 24 ب.
22- التنبئة ، ص 2أ ، ونحوه في مرقاة الصعود ، ص 189 ب.
23- الجامع الصغير ، ج1 ، ص 74.
24- ذكره السيوطي في مرقاة الصعود ، ص 189ب ، وفي التنبئة: 2أ ، والمناوي في فيض القدير ج2 ، ص 282 ، وصاحب عون المعبود ج4 ، ص 183 ، ط. هندية.. وغيرهم.
25- المقاصد الحسنة ، ص 121 ، ثم قال: (وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث) .
26- فيض القدير ج2 ص282.
27- سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ، ص 150 ، رقم 599.
وقال في صحيح الجامع: حديث صحيح ، ج2 ، ص 143 ، رقم 1870 ، ط: المكتب الإسلامي.
أما قوله: (رجال مسلم) فنعم ، وانظر في ذلك: تهذيب التهذيب ج6 ، ص71 ، ج4 ، ص7 ، ج4 ، ص 320 ، 323 ، 326 ، ج12 ، ص 173.
28- الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ، مخطوط ورق 85/ب ، 86/أ.
29- عن توالي التأسيس لابن حجر، مخطوطة، ورقة 24 / أ، والتنبئة ، ورقة 2 أ - ب.
30- أبو نعيم في الحلية 9/97، وأبو إسماعيل الهروي بواسطة التنبئة ورقة 2/ب، ولعله هو اللفظ الذي عناه الشيخ الألباني في إحالته السابقة إلى الهروي في ذم الكلام.
31- التنبئة ورقة 5/ب.
32- مقدمة فيض القدير للمناوي ، ج1 ، ص10.
33- أيضاً 1/12.
34- جامع الأصول ج11 ، ص 324 ، تحقيق: الأرنؤوط ، ط: الملاح.
35- فيض القدير 1/12 ، وانظر: عون المعبود 4/178 ، 180.
36- موجودة بكاملها في آخر رسالته (التنبئة) ، وموجودة في فيض القدير ج2 ، ص282، وعون المعبود 4/81.
37- التنبئة ص18/ب.
38- ومن هؤلاء: ابن السبكي في: طبقات الشافعية ، ج1 ، ص 202 ، حيث يرجح بعضهم لقرب وفاته من رأس المائة. وبدر الدين الأهدل في رسالته: (الرسالة المرضية في نصر مذهب الأشعرية) على ما نقله السيوطي في التنبئة ، ص 13/ب ، وانظر مستدرك الحاكم ج4 ، ص 522 ، 523.
39- انظر: عون المعبود ج4 ، ص 178 - 179 ، ط: الهندية.
40- معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج2 ، ص471 ، دار الكتب العلمية - إيران - قم.
41- الصحاح للجوهري ج3 ص933 ، دار العلم للملايين ، ومعجم مقاييس اللغة.
42- القاموس المحيط ج2 ، ص 226 ، ط2 الحلبي.
43- لسان العرب ج6 ، ص 91 ، ط: دار صادر.
44- حديث مرفوع رواه الترمذي في: 41 - كتاب الإيمان ، 8 - باب ما جاء في حرمة الصلاة ، حديث رقم 2616 ج5 ص12 ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
45- حديث مرفوع رواه مسلم في: 18 - كتاب الطلاق ، 9- باب وجوب الإحداد ، رقم 61 ج2 ص 126 ، وأبو داود في: 7 - الطلاق ، 43 - باب إحداد المتوفى عنها زوجها، رقم 2299 ، ج2 ص722 ، والترمذي في: 11 - كتاب الطلاق ، 18 - باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها ، رقم 1197 ، ج3 ص 492 ، والنسائي في الطلاق ، باب عدة المتوفى عنها زوجها 6/188 ، وليس فيه لفظ (رأس الحول) .
46- حديث: أرأيتكم ليلتكم.. رواه البخاري في صحيحه في:
أ - 3ـ كتاب العلم ، 41 - باب السمر في العلم ، حديث رقم 116 ، ج1 ، ص211 (مع الفتح ».
ب - 9 - مواقيت الصلاة ، 20 - باب ذكر العشاء والعتمة ، حديث 564 ، ج2 ، ص 45.
ج - 9 - مواقيت الصلاة أيضاً ، 40 - باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ، حديث 601 ، ج2 ، ص 73.
ورواه الإمام أحمد في (مسنده) ج2 ، ص88 ، ص121 ، ص131.
47 - انظر: توالي التأسيس ص 24/ب ، وفيض القدير ج1 ، ص10 ، وفتح الباري ج13، ص295..
48- التنبئة ص 18/ب.
49- بذل المجهود ج17 ، ص203.
50- رواه البخاري في 96 كتاب الاعتصام ، 10 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق رقم 7311 ، ورقم 7312 ، ج13 ، ص293.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان ، 7- باب نزول عيسى عليه السلام ، حديث رقم 156 ، ج1 ، ص137.
وفي: 33 - كتاب الإمارة ، 53 - باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة.. الخ ، رقم 1920 ، 1921 ، 1922 ، 1923 ، وقطعة من حديث في الزكاة بعد هذا الموضع وهي برقم 1037 ، 1924 ، 1925 ، ج3 ، ص1523 - 1525.
وأبو داود في كتاب الجهاد 4 باب دوام الجهاد ، رقم 2484 ، ج3 ، ص11 ، وفي: 29 - كتاب الفتن والملاحم ، 1 - باب ذكر الفتن ودلائلها ، رقم 4252 ، ج4 ، ص 452 ، والترمذي في 34 كتاب الفتن ، 37 - باب ما جاء في الشام ، حديث 2192 ، ج4 ، ص485، وقال: حسن صحيح وفي: 51 - باب ما جاء في الأئمة المضلين، حديث 2229، ج4 ، ص504 ، وقال أيضاً: حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في: المقدمة 1 - باب اتباع سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حديث 6 - 10 ج1 ، ص5 ، وفي 36 كتاب الفتن 9 - باب ما يكون من الفتن ، حديث 3952، ج3 ، ص1304.
ورواه الدارمي في 16 - كتاب الجهاد ، 39 - باب لا يزال طائفة من هذه الأمة... رقم 2437 ، 1438 ، ج2 ، ص2.
ورواه أحمد في مسنده: 5/34 ، 239 ، 278 ، 279.
ورواه الطبراني في مواضع هذه بعضها: ج2 ، ص 248 ، رقم 1922 ، ص250 ، رقم 1931، ص 265 ، رقم 1996 ، ص 269 ، رقم 2011 ، ج5 ، ص 185 ، رقم 1967 ، ج8 ، ص 171 ، رقم 7643 ، ج17 ، ص314 ، رقم 869 - 870 ، ج20 ، ص 318 ، رقم 754 ، ص402 ، رقم 959 - 960.
* مر تخريج أحاديثهم في الصفحة السابقة ، أما سلمة بن فضيل فأشار إلى حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ص 42 ، ط: مؤسسة الرسالة (مع الرد على الجهمية)، ورواه في تاريخه الكبير ج4 ص 71 ، وحديث شرحبيل في ، ج4 ، ص248.
51- سنن الترمذي ج4 ، ص485.
52- صحيح البخاري (مع الفتح) ج13 ، ص293.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق