من أقسام الحكم التكليفي
الواجب
الحكم التكليفي:
تعريفه: هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء أو التخيير.
أقسامه: هذا التعريف يدل على أن الأحكام التكليفية خمسة أحكام، وبيان ذلك:
أن الخطاب الشرعي إما أن يكون طلبًا، أو تخييرًا.
(أ) وخطاب الطلب: إما أن يكون طلب فعل، أو طلب ترك.
وطلب الفعل إما أن يكون لازمًا، أو غير لازم.
فطلب الفعل اللازم هو: الإيجاب، وطلب الفعل غير اللازم هو الندب.
وطلب الترك إما أن يكون لازمًا، أو غير لازم.
(ب) وأما خطاب التخيير، فليس فيه طلب ترك، ولا طلب فعل، بل هو مستوي الطرفين، وهو المباح.
الواجب:
التعريف:
معناه لغة: له معنيان:
(أ) اللازم والثابت: تقول: حقك واجب عليَّ: يعني لازم وثابت.
(ب) الساقط: قال تعالى: ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾ [الحج: 36]؛ يعني: سقطت على الأرض؛ لأن الإبل تذبح قائمة.
وقال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرًا نهاهُمُ = عن السِّلْم، حتى كان أول واجبِ
يعني: أول ساقط.
المعنى الاصطلاحي:
هناك منهجان للمعنى الاصطلاحي، أحدهما منهج المناطقة، والآخر منهج الفقهاء[1]، وبيان ذلك:
تعريف المناطقة: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف على سبيل الحتم والإلزام.
تعريف الفقهاء: هناك تعريفات للفقهاء على النحو الآتي:
(1) ما توعد بالعقاب على تركه.
وعورض هذا التعريف بأنه لو توعَّد لَوجب تحقق الوعيد، لكن من المعلوم أن الله قد يعفو عنه فلا يقع الوعيد.
(2) ما يعاقب تاركه.
وعورض أيضًا بأن تاركه قد لا يُعاقب بعفو الله عنه.
(3) ما يُذمُّ تاركه شرعًا.
وهذا التعريف أشمل؛ لأن الذمَّ أعم من أن يعاقب أو لا يعاقب.
(4) ما يثاب فاعله امتثالاً، ويستحق العقاب تاركه.
وأرى أن هذا التعريف أحسن التعريفات، لأنه عبَّر باستحقاق العقاب، لا بالجزم بإيقاعه، فقد يستحق العقاب لكنه لا يعاقب لعفو الله عز وجل، أو لمانع يمنع من إيقاعه، وبهذا يكون سلم من الاعتراضات السابقة.
كما لوحظ في التعريف التعبير بفعله امتثالاً، أما لو فعله على غير سبيل الامتثال، فهو غير مثاب.
ألفاظ الواجب:
سُمِّي الواجب: فرضًا، وحتمًا، ولازمًا.
مسألة: هل الفرض والواجب بمعنى واحد؟
فرَّق الحنفية بين الفرض والواجب؛ بأن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني كخبر الواحد والقياس.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الفرض والواجب بمعنًى واحد، سواء ثبت بدليل ظني أو قطعي، وهذا القول هو الراجح.
قال في نهاية السول: "فإن ادَّعوا أن التفرقة شرعية أو لغوية، فليس في اللغة ولا في الشرع ما يقتضيه، وإن كانت اصطلاحية فلا مشاحَّة في الاصطلاح"[2].
أقسام الواجب:
ينقسم الواجب إلى أقسام بحسب اعتباره:
(أ) ينقسم الواجب باعتبار ذاته إلى:
واجب معين، وواجب مخير.
(ب) ينقسم الواجب باعتبار وقته إلى:
واجب موسع وواجب مضيق.
(جـ) ينقسم الواجب باعتبار فاعله إلى:
واجب عيني، وواجب كفائي.
(د) ينقسم الواجب باعتبار تقديره إلى:
واجب محدد، وواجب غير محدد.
وسوف أبيِّن في الصفحات الآتية هذه الأقسام ومعانيها، وما يتعلق بها.
القسم الأول: أقسام الواجب باعتبار ذاته:
(أ) واجب معين:
وهو ما أُمر به المكلف من غير تخيير فيه بينه وبين غيره، كالصلاة مثلاً، فإنها واجبة بعينها، وليس له تخيير أن يؤديها أو يؤدي شيئًا غيرها، وكذلك الصيام، ونحو ذلك. وهذا أكثر أنواع الواجبات.
وحكمه: عدم براءة ذمة المكلف حتى يفعله بعينه.
(ب) واجب مخير: أو يقال: مبهم في عدد محصور:
وهو الذي أُمر به المكلف لا بعينه، بل خُيِّر في فعله بين أمور معينة محصورة[3].
مثال: كفارة اليمين: خُيِّر فيه المكلَّف أن يكفر عن يمينه بخصلة واحدة من الخصال الثلاثة المذكورة في الآية، قال تعالى: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [المائدة: 89].
حكمه: تبرأ ذمة المكلف إذا أتى بواحدة منها، فإن تركها كلها فهو آثم.
القسم الثاني: أقسام الواجب باعتبار وقت أدائه:
(أ) وقت موسَّع:
هو ما طلب الشارع فعله في وقت يزيد على أدائه وأداء غيره من جنسه، كالصلاة: فإن وقتها يسع لأداء الصلاة، وأداء غيرها من الصلاة، فإذا أدَّى الصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت، فقد أتى بالواجب في وقته، سواء كان في أول الوقت أو في آخره.
(ب) وقت مضيق:
هو ما طلب الشارع فعله مقيدًا بزمن معين لا يسع لأداء غيره من جنسه فيه، فلا يجد المكلف مجالاً لتأخر فعله عن الزمن المقدر له، كالصيام، فإنه لا يمكن أن يؤدي صيامًا آخر في نفس الوقت.
تنبيه:
إذا أخَّر الواجب الموسع فمات في أثناء وقته قبل أن يتضايق الوقت، لم يكن عاصيًا؛ وذلك لأنه يجوز له أن يأتي بالواجب في أول الوقت، أو وسطه، أو آخره، والوقت ليس من فعله.
وأما إذا غلب على ظنه أنه يموت في أول الوقت أو وسطه كمن حكم عليه بالموت، وتعين التنفيذ أثناء الوقت، فإنه لا يجوز له تأخيره ممن غلب على ظنه وإلا كان عاصيًا.
ثالثًا: تقسيم الواجب باعتبار فاعله:
(أ) واجب عيني:
هو ما طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين، فيجب على كل مكلف الإتيان به، ولا يجزئ أن يأتي به أحد عن أحد، كالصلاة، والصيام، والزكاة.
وحكمه: أن من لم يأتِ به من المكلفين فهو آثم.
(ب) واجب كفائي:
هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين بأن يقوم به البعض، فإذا أتى به البعض سقط عن الآخرين؛ كتغسيل الموتى ودفنهم، وتعليم الصنائع، وبناء المستشفيات... إلخ
حكمه: إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإلا أَثِم كلُّ مَن علم به وأطاقه.
تنبيهات:
(1) وللإمام الشافعي رحمه الله شرح لمعنى فرض الكفاية في كتابه "الرسالة"[4] يُستفاد منه أن فرض الكفاية يمتاز بما يلي[5]:
(1) أن مقصود الشارع فيه نفس الفعل بقطع النظر عن الفاعل.
(2) أن الإثم يعمُّ كل مطيقٍ إذا لم يقم به أحد.
(3) أن الإثم يسقط عن المتخلِّفين إذا قام البعض بالفعل على الوجه المطلوب.
(4) أن الفضل والأجر لمَن قام بالفعل على الوجه المطلوب.
(2) الواجب الكفائي قد يكون واجبًا عينيًّا في حق بعض الأفراد إذا تعيَّن عليه، فالجهاد مثلاً فرض كفائي، لكن لو هجم العدو على بلاد المسلمين واحتاج الأمر إلى دفعه من الجميع كان فرضًا عينيًّا، وكمن شهد غريقًا، ولا يحسن السباحة غيره، تعيَّن عليه إنقاذه.
رابعًا: تقسيم الواجب باعتبار تقديره:
(أ) واجب مقدر (محدد):
وهو ما قدَّر له الشارع حدًّا محدودًا، كعدد ركعات الصلاة، وأنصبة الزكاة، ونحو ذلك.
وحكمه: أنه يجب الإتيان به على الوجه المحدد، ولا تبرأ ذمتُه إلا بأدائه على هذا الوصف المقدر.
(ب) واجب غير مقدر (غير محدد):
وهو الذي لم يقدِّر له الشارع حدًّا معينًا؛ كالإحسان إلى الناس، والنفقة على الزوجة، ونحو ذلك.
حكمه: على المكلف أن يأتي به على ما أعانه الله، والمرجع إلى ذلك العُرف، واجتهاد المكلَّف حسب الطاقة والاستطاعة، قال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ﴾ [الطلاق: 7].
مسائل متعلقة بباب الوجوب:
الأولى: ألفاظ الوجوب:
قال ابن القيم رحمه الله: (ويستفاد الوجوب: بالأمر تارة، وبالتصريح بالإيجاب، والفرض، والكَتْب، ولفظة على، ولفظة حق على العباد، وعلى المؤمن، وترتيب الذم والعقاب على الترك، وإحباط العمل بالترك، وغير ذلك)[6].
الثانية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
وتسمى هذه القاعدة مقدمة الواجب، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (الوسائل لها أحكام المقاصد، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروه تابعة لها، ووسيلة المباح مباح... فإذا أمر الله ورسوله بشيء كان أمرًا به وبما لا يتم إلا به، وكان أمرًا بجميع شروطه الشرعية والعادية والمعنوية والحسية، فإن الذي شرع الأحكام عليم حكيم، يعلم ما يترتب على ما حكم به على عباده من لوازم وشروط ومتممات)[7].
قال ابن القيم رحمه الله: (فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل)[8].
تنبيه:
ما يتوقف على إتيان الواجب به ثلاثة أقسام:
(أ) ما لا يدخل تحت قدرة العبد، كزوال الشمس لوجوب صلاة الظهر، واستهلال هلال رمضان لصيامه، فهذا القسم ليس للعبد فيه تكليف، ولا يدخل تحت قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بل هذا من الأسباب التي يتعلق بها الوجوب.
ويعبر عنه: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب.
(ب) ما كان تحت قدرة العبد لكنه غير مأمور بتحصيله، كتحصيل النصاب لوجوب الزكاة، فإن العبد غير مطالب أن يحصِّل النصاب، لكنه لو حصَّله وجبت الزكاة، وهذا القسم أيضًا يندرج تحت قولنا: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب.
(جـ) ما كان تحت قدرة العبد ومأمور بتحصيله كالطهارة للصلاة، والسعي لحضور الجمعة، ونحو ذلك، فهذا الذي يجب على العبد تحصيله للإتيان بالواجب، وهذا القسم فقط هو الذي يندرج تحت قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويتفرع على ذلك:
(1) إذا عجز عن بعض الواجب، وتمكَّن من بعضه، فإن ما عجز عنه يسقط عنه ووجب عليه الإتيان بما هو في مقدوره، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))؛ رواه مسلم.
(2) هل يُثاب على فعل الوسيلة؟
الجواب: نعم يثاب عليها، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ [التوبة: 120].
ومنها: عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشًى)).
الثالثة: ما لا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب:
فإذا اختلط مثلاً شيء مباح بشيء حرام، بحيث اشتبه علينا ولم يتميز، فإنه يجب ترك الجميع؛ لأنه لا يتحقق ترك الحرام إلا بهذا.
مثال: اختلطت ميتة بمذكاة، وجب ترك الجميع؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن تكون هي الميتة، فإحداهما حرام أصلاً لأنها ميتة، والأخرى حرمت وتركت لاشتباهها، فيجب الامتناع عنها تجنبًا للوقوع في الحرام.
الرابعة: الفعل النبوي إذا كان تفسيرًا لواجب مجمل، هل يكون الفعل النبوي واجبًا؟
فمثلاً إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فهذا واجب لبيان مجمل، وهو الأمر بالصلاة، فهل تكون جميع أفعاله في الصلاة واجبة؟
الراجح: أن البيان بالفعل يقع على ما هو واجب، وما هو مندوب، ويستفاد منه مشروعية المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن يستفاد الوجوب لبعض أفعال الصلاة من أدلة أخرى.
[1] الفرق بينهما أن المناطقة منهجهم التعريف بماهية الشيء لا بحكمه، ويرون أن التعريف بالحكم معيب، وأما الفقهاء فمنهجهم التعريف بالحكم؛ لأن أهم شيء في التعريف أن يميزه عن غيره بأن يكون جامعًا مانعًا، وهذا يتحقق بالتعريف بالحكم، فتعريف المناطقة هو تعريف بالحقيقة، وتعريف الفقهاء هو تعريف بثمرة التكليف.
[2] نهاية السول (1 /49).
[3] قد يشكل على البعض كيف يخير في الفعل مع أن تعريف الواجب: طلب الفعل على سبيل الإلزام، والجواب: أنه لا إشكال؛ لأنه ملزم أن يأتي الواجب، لكن الإلزام هنا أن يختار واحدًا من أفراده، ألا ترى أنه إذا لم يأتِ بواحد منها أثم؛ لأنه لم يأتِ بالواجب؟ فلا يجوز للمكلف الإخلال بجميعها، ولا يلزمه الجمع بينها.
[4] الرسالة (366 - 369).
[5] معالم أصول الفقه؛ لمحمد الجيزاني.
[6] بدائع الفوائد (4/3).
[7] إعلام الموقعين (3 /135).
[8] القواعد والأصول الجامعة (10).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/86828/#ixzz4Y6GjuWys
من أقسام الحكم التكليفي
الواجب
الحكم التكليفي:
تعريفه: هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء أو التخيير.
أقسامه: هذا التعريف يدل على أن الأحكام التكليفية خمسة أحكام، وبيان ذلك:
أن الخطاب الشرعي إما أن يكون طلبًا، أو تخييرًا.
(أ) وخطاب الطلب: إما أن يكون طلب فعل، أو طلب ترك.
وطلب الفعل إما أن يكون لازمًا، أو غير لازم.
فطلب الفعل اللازم هو: الإيجاب، وطلب الفعل غير اللازم هو الندب.
وطلب الترك إما أن يكون لازمًا، أو غير لازم.
(ب) وأما خطاب التخيير، فليس فيه طلب ترك، ولا طلب فعل، بل هو مستوي الطرفين، وهو المباح.
الواجب:
التعريف:
معناه لغة: له معنيان:
(أ) اللازم والثابت: تقول: حقك واجب عليَّ: يعني لازم وثابت.
(ب) الساقط: قال تعالى: ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾ [الحج: 36]؛ يعني: سقطت على الأرض؛ لأن الإبل تذبح قائمة.
وقال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرًا نهاهُمُ = عن السِّلْم، حتى كان أول واجبِ
يعني: أول ساقط.
المعنى الاصطلاحي:
هناك منهجان للمعنى الاصطلاحي، أحدهما منهج المناطقة، والآخر منهج الفقهاء[1]، وبيان ذلك:
تعريف المناطقة: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف على سبيل الحتم والإلزام.
تعريف الفقهاء: هناك تعريفات للفقهاء على النحو الآتي:
(1) ما توعد بالعقاب على تركه.
وعورض هذا التعريف بأنه لو توعَّد لَوجب تحقق الوعيد، لكن من المعلوم أن الله قد يعفو عنه فلا يقع الوعيد.
(2) ما يعاقب تاركه.
وعورض أيضًا بأن تاركه قد لا يُعاقب بعفو الله عنه.
(3) ما يُذمُّ تاركه شرعًا.
وهذا التعريف أشمل؛ لأن الذمَّ أعم من أن يعاقب أو لا يعاقب.
(4) ما يثاب فاعله امتثالاً، ويستحق العقاب تاركه.
وأرى أن هذا التعريف أحسن التعريفات، لأنه عبَّر باستحقاق العقاب، لا بالجزم بإيقاعه، فقد يستحق العقاب لكنه لا يعاقب لعفو الله عز وجل، أو لمانع يمنع من إيقاعه، وبهذا يكون سلم من الاعتراضات السابقة.
كما لوحظ في التعريف التعبير بفعله امتثالاً، أما لو فعله على غير سبيل الامتثال، فهو غير مثاب.
ألفاظ الواجب:
سُمِّي الواجب: فرضًا، وحتمًا، ولازمًا.
مسألة: هل الفرض والواجب بمعنى واحد؟
فرَّق الحنفية بين الفرض والواجب؛ بأن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني كخبر الواحد والقياس.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الفرض والواجب بمعنًى واحد، سواء ثبت بدليل ظني أو قطعي، وهذا القول هو الراجح.
قال في نهاية السول: "فإن ادَّعوا أن التفرقة شرعية أو لغوية، فليس في اللغة ولا في الشرع ما يقتضيه، وإن كانت اصطلاحية فلا مشاحَّة في الاصطلاح"[2].
أقسام الواجب:
ينقسم الواجب إلى أقسام بحسب اعتباره:
(أ) ينقسم الواجب باعتبار ذاته إلى:
واجب معين، وواجب مخير.
(ب) ينقسم الواجب باعتبار وقته إلى:
واجب موسع وواجب مضيق.
(جـ) ينقسم الواجب باعتبار فاعله إلى:
واجب عيني، وواجب كفائي.
(د) ينقسم الواجب باعتبار تقديره إلى:
واجب محدد، وواجب غير محدد.
وسوف أبيِّن في الصفحات الآتية هذه الأقسام ومعانيها، وما يتعلق بها.
القسم الأول: أقسام الواجب باعتبار ذاته:
(أ) واجب معين:
وهو ما أُمر به المكلف من غير تخيير فيه بينه وبين غيره، كالصلاة مثلاً، فإنها واجبة بعينها، وليس له تخيير أن يؤديها أو يؤدي شيئًا غيرها، وكذلك الصيام، ونحو ذلك. وهذا أكثر أنواع الواجبات.
وحكمه: عدم براءة ذمة المكلف حتى يفعله بعينه.
(ب) واجب مخير: أو يقال: مبهم في عدد محصور:
وهو الذي أُمر به المكلف لا بعينه، بل خُيِّر في فعله بين أمور معينة محصورة[3].
مثال: كفارة اليمين: خُيِّر فيه المكلَّف أن يكفر عن يمينه بخصلة واحدة من الخصال الثلاثة المذكورة في الآية، قال تعالى: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [المائدة: 89].
حكمه: تبرأ ذمة المكلف إذا أتى بواحدة منها، فإن تركها كلها فهو آثم.
القسم الثاني: أقسام الواجب باعتبار وقت أدائه:
(أ) وقت موسَّع:
هو ما طلب الشارع فعله في وقت يزيد على أدائه وأداء غيره من جنسه، كالصلاة: فإن وقتها يسع لأداء الصلاة، وأداء غيرها من الصلاة، فإذا أدَّى الصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت، فقد أتى بالواجب في وقته، سواء كان في أول الوقت أو في آخره.
(ب) وقت مضيق:
هو ما طلب الشارع فعله مقيدًا بزمن معين لا يسع لأداء غيره من جنسه فيه، فلا يجد المكلف مجالاً لتأخر فعله عن الزمن المقدر له، كالصيام، فإنه لا يمكن أن يؤدي صيامًا آخر في نفس الوقت.
تنبيه:
إذا أخَّر الواجب الموسع فمات في أثناء وقته قبل أن يتضايق الوقت، لم يكن عاصيًا؛ وذلك لأنه يجوز له أن يأتي بالواجب في أول الوقت، أو وسطه، أو آخره، والوقت ليس من فعله.
وأما إذا غلب على ظنه أنه يموت في أول الوقت أو وسطه كمن حكم عليه بالموت، وتعين التنفيذ أثناء الوقت، فإنه لا يجوز له تأخيره ممن غلب على ظنه وإلا كان عاصيًا.
ثالثًا: تقسيم الواجب باعتبار فاعله:
(أ) واجب عيني:
هو ما طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين، فيجب على كل مكلف الإتيان به، ولا يجزئ أن يأتي به أحد عن أحد، كالصلاة، والصيام، والزكاة.
وحكمه: أن من لم يأتِ به من المكلفين فهو آثم.
(ب) واجب كفائي:
هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين بأن يقوم به البعض، فإذا أتى به البعض سقط عن الآخرين؛ كتغسيل الموتى ودفنهم، وتعليم الصنائع، وبناء المستشفيات... إلخ
حكمه: إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإلا أَثِم كلُّ مَن علم به وأطاقه.
تنبيهات:
(1) وللإمام الشافعي رحمه الله شرح لمعنى فرض الكفاية في كتابه "الرسالة"[4] يُستفاد منه أن فرض الكفاية يمتاز بما يلي[5]:
(1) أن مقصود الشارع فيه نفس الفعل بقطع النظر عن الفاعل.
(2) أن الإثم يعمُّ كل مطيقٍ إذا لم يقم به أحد.
(3) أن الإثم يسقط عن المتخلِّفين إذا قام البعض بالفعل على الوجه المطلوب.
(4) أن الفضل والأجر لمَن قام بالفعل على الوجه المطلوب.
(2) الواجب الكفائي قد يكون واجبًا عينيًّا في حق بعض الأفراد إذا تعيَّن عليه، فالجهاد مثلاً فرض كفائي، لكن لو هجم العدو على بلاد المسلمين واحتاج الأمر إلى دفعه من الجميع كان فرضًا عينيًّا، وكمن شهد غريقًا، ولا يحسن السباحة غيره، تعيَّن عليه إنقاذه.
رابعًا: تقسيم الواجب باعتبار تقديره:
(أ) واجب مقدر (محدد):
وهو ما قدَّر له الشارع حدًّا محدودًا، كعدد ركعات الصلاة، وأنصبة الزكاة، ونحو ذلك.
وحكمه: أنه يجب الإتيان به على الوجه المحدد، ولا تبرأ ذمتُه إلا بأدائه على هذا الوصف المقدر.
(ب) واجب غير مقدر (غير محدد):
وهو الذي لم يقدِّر له الشارع حدًّا معينًا؛ كالإحسان إلى الناس، والنفقة على الزوجة، ونحو ذلك.
حكمه: على المكلف أن يأتي به على ما أعانه الله، والمرجع إلى ذلك العُرف، واجتهاد المكلَّف حسب الطاقة والاستطاعة، قال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ﴾ [الطلاق: 7].
مسائل متعلقة بباب الوجوب:
الأولى: ألفاظ الوجوب:
قال ابن القيم رحمه الله: (ويستفاد الوجوب: بالأمر تارة، وبالتصريح بالإيجاب، والفرض، والكَتْب، ولفظة على، ولفظة حق على العباد، وعلى المؤمن، وترتيب الذم والعقاب على الترك، وإحباط العمل بالترك، وغير ذلك)[6].
الثانية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
وتسمى هذه القاعدة مقدمة الواجب، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (الوسائل لها أحكام المقاصد، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروه تابعة لها، ووسيلة المباح مباح... فإذا أمر الله ورسوله بشيء كان أمرًا به وبما لا يتم إلا به، وكان أمرًا بجميع شروطه الشرعية والعادية والمعنوية والحسية، فإن الذي شرع الأحكام عليم حكيم، يعلم ما يترتب على ما حكم به على عباده من لوازم وشروط ومتممات)[7].
قال ابن القيم رحمه الله: (فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل)[8].
تنبيه:
ما يتوقف على إتيان الواجب به ثلاثة أقسام:
(أ) ما لا يدخل تحت قدرة العبد، كزوال الشمس لوجوب صلاة الظهر، واستهلال هلال رمضان لصيامه، فهذا القسم ليس للعبد فيه تكليف، ولا يدخل تحت قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بل هذا من الأسباب التي يتعلق بها الوجوب.
ويعبر عنه: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب.
(ب) ما كان تحت قدرة العبد لكنه غير مأمور بتحصيله، كتحصيل النصاب لوجوب الزكاة، فإن العبد غير مطالب أن يحصِّل النصاب، لكنه لو حصَّله وجبت الزكاة، وهذا القسم أيضًا يندرج تحت قولنا: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب.
(جـ) ما كان تحت قدرة العبد ومأمور بتحصيله كالطهارة للصلاة، والسعي لحضور الجمعة، ونحو ذلك، فهذا الذي يجب على العبد تحصيله للإتيان بالواجب، وهذا القسم فقط هو الذي يندرج تحت قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويتفرع على ذلك:
(1) إذا عجز عن بعض الواجب، وتمكَّن من بعضه، فإن ما عجز عنه يسقط عنه ووجب عليه الإتيان بما هو في مقدوره، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))؛ رواه مسلم.
(2) هل يُثاب على فعل الوسيلة؟
الجواب: نعم يثاب عليها، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ [التوبة: 120].
ومنها: عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشًى)).
الثالثة: ما لا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب:
فإذا اختلط مثلاً شيء مباح بشيء حرام، بحيث اشتبه علينا ولم يتميز، فإنه يجب ترك الجميع؛ لأنه لا يتحقق ترك الحرام إلا بهذا.
مثال: اختلطت ميتة بمذكاة، وجب ترك الجميع؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن تكون هي الميتة، فإحداهما حرام أصلاً لأنها ميتة، والأخرى حرمت وتركت لاشتباهها، فيجب الامتناع عنها تجنبًا للوقوع في الحرام.
الرابعة: الفعل النبوي إذا كان تفسيرًا لواجب مجمل، هل يكون الفعل النبوي واجبًا؟
فمثلاً إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فهذا واجب لبيان مجمل، وهو الأمر بالصلاة، فهل تكون جميع أفعاله في الصلاة واجبة؟
الراجح: أن البيان بالفعل يقع على ما هو واجب، وما هو مندوب، ويستفاد منه مشروعية المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن يستفاد الوجوب لبعض أفعال الصلاة من أدلة أخرى.
[1] الفرق بينهما أن المناطقة منهجهم التعريف بماهية الشيء لا بحكمه، ويرون أن التعريف بالحكم معيب، وأما الفقهاء فمنهجهم التعريف بالحكم؛ لأن أهم شيء في التعريف أن يميزه عن غيره بأن يكون جامعًا مانعًا، وهذا يتحقق بالتعريف بالحكم، فتعريف المناطقة هو تعريف بالحقيقة، وتعريف الفقهاء هو تعريف بثمرة التكليف.
[2] نهاية السول (1 /49).
[3] قد يشكل على البعض كيف يخير في الفعل مع أن تعريف الواجب: طلب الفعل على سبيل الإلزام، والجواب: أنه لا إشكال؛ لأنه ملزم أن يأتي الواجب، لكن الإلزام هنا أن يختار واحدًا من أفراده، ألا ترى أنه إذا لم يأتِ بواحد منها أثم؛ لأنه لم يأتِ بالواجب؟ فلا يجوز للمكلف الإخلال بجميعها، ولا يلزمه الجمع بينها.
[4] الرسالة (366 - 369).
[5] معالم أصول الفقه؛ لمحمد الجيزاني.
[6] بدائع الفوائد (4/3).
[7] إعلام الموقعين (3 /135).
[8] القواعد والأصول الجامعة (10).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/86828/#ixzz4Y6GjuWys
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق