دراسات في العقيدة والشريعة
منهجية في تقرير التوحيد
عثمان على حسن
الإقرار بوجود الخالق أمر فطري ، تشهد له الفطرة السليمة والعقل الصحيح الصريح ، ولا يستطيع أحد إنكاره على سبيل الجزم واليقين ، وإنما قد يغالط فيه على سبيل العناد والمكابرة ، كما قال تعالى في فرعون وقومه : [ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواً ][النمل : 14] .
وذلك أن الكون بأشيائه وأحيائه يشهد بهذه الحقيقة وينطق بها ، بل وجود هذا المُنكِر شاهد بوجود الخالق سبحانه كما قال تعالى : [ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ][الطور : 35] ، فالمنكِر إما أن يستدل على دعواه بأنه خُلِقَ من غير خالق ، أو أنه قد أوجد نفسه وخلقها ، وكلاهما أمر في غاية البطلان عقلاً وحسّاً ؛ لأن وجوده يدل على أنه وُجِدَ بعد أن لم يكن ، وخروجه من العدم إلى الوجود يتوقف على خالق مُوجِد يكون وراء هذه الحقيقة ؛ هذا أمر لا يقوى إنسان على إنكاره إلا على سبيل العناد ، والاحتمال الثاني : أن يكون هو الذي أوجد نفسه ، وهذا ظاهر البطلان ؛ لأنه يستلزم أن يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في الوقت نفسه ؛ فهو حتى يوجد نفسه ويخلقها ينبغي له أن يكون موجوداً ، وحتى يكون كذلك فلا بد له من موجد ، وهذا يستلزم الدور [1] وهو باطل .
فتبين عقلاً وحسّاً أن الكون لا بد له من خالق ، وهذا من الأمور الضرورية الفطرية التي توجد في نفس كل إنسان وعقله ؛ بل حتى الطفل الصغير قبل سن تمييزه : إذا ضُرِبَ من خلفه التفت باحثاً عن ضاربه ؛ لعلمه أن هذه الضربة لا بد لها من ضارب فاعل .
فإذا تبين ذلك وظهر بأدلته الفطرية والعقلية والحسية ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يكون واحداً في ذاته ؛ إذ إن دقة الصنع ، وانتظام أمر الخلق والكون في أموره الكلية والجزئية الدقيقة ينطق بهذه الحقيقة الكبرى ؛ لأن تعدد الخالقين باعث على التناقض والاضطراب والتنازع كما قال تعالى : [ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] [المؤمنون : 91] .
فبعد أن عرفنا وجود الخالق ووحدانيته في ذاته ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يتصف بصفات يُعرف بها ، وتميّزه عن خلقه ، وهي في حقه على جهة الكمال ، بحيث لا يشترك مع خلقه في شيء من هذه الصفات .
وهذه الصفات الإلهية تجعل الإنسان صاحب تصوّر صحيح ودقيق عن الخالق ، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة ، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه ، ولهذا ينبغي التقيد بما وصف الرب به نفسه من الصفات ، وسمى نفسه من الأسماء ، فإذا تم ذلك كان الإنسان صاحب معرفة صحيحة ودقيقة بالخالق ؛ وعليه كانت معاملته للخالق على الوجه الصحيح المطلوب.
وصفات الخالق تؤكد على معاني العظمة والكبرياء ؛ فهو الخالق لا خالق سواه ، وهو رب العالم كله : علوه وسفله ، وهو الحي الدائم الباقي ، على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وهو المحيي المميت ، المعز المذل ، الرافع الخافض ، القابض الباسط .
ومن صفاته أنه يحب ويبغض ، ويرضى ويغضب : يحب الخير والعدل ، ويرضى عن أهلهما ، ويبغض الشر والظلم ، ويغضب على أهلهما .
فإذا تبين ذلك وعرفنا ربنا الذي أوجدنا من العدم ، ودبّر أمرنا كله ، وقدّره على أحسن التقدير : وجب شكره على هذه النعم ؛ وشكرُ المحسن أمر مستقر في بداهة العقول ، ومحبّبٌ إلى الفطر السليمة ، وشكرُ الخالق إنما يكون باتباع أوامره ، وطاعة أحكامه ، التي فيها انتظام الحياة الاجتماعية ، وتصحيح الحياة الأخلاقية ، بعد أن ضمن الرب انتظام الحياة الكونية ، فيكون الكون كله بأحيائه وأشيائه مطيعاً للرب الخالق .
ولما لم يكن في وسع الناس مخاطبة الرب في الحياة الدنيا أرسل لهم من أنفسهم رسلاً في كل زمان ومكان ، يعرِّفون الناس بربهم ، وبما يحبه ويرضاه من الأعمال والأقوال والأخلاق ، وهو دين الله وشرعه ، ولهذا كانت الرسل هي مصدر المعرفة بالرب وشرعه ودينه .
________________________
(1) الدور : هو توالي عروض العلّية والمعلولية لا إلى نهاية ، أو هو توقف الشيء على ما توقف عليه .
منهجية في تقرير التوحيد
عثمان على حسن
الإقرار بوجود الخالق أمر فطري ، تشهد له الفطرة السليمة والعقل الصحيح الصريح ، ولا يستطيع أحد إنكاره على سبيل الجزم واليقين ، وإنما قد يغالط فيه على سبيل العناد والمكابرة ، كما قال تعالى في فرعون وقومه : [ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواً ][النمل : 14] .
وذلك أن الكون بأشيائه وأحيائه يشهد بهذه الحقيقة وينطق بها ، بل وجود هذا المُنكِر شاهد بوجود الخالق سبحانه كما قال تعالى : [ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ][الطور : 35] ، فالمنكِر إما أن يستدل على دعواه بأنه خُلِقَ من غير خالق ، أو أنه قد أوجد نفسه وخلقها ، وكلاهما أمر في غاية البطلان عقلاً وحسّاً ؛ لأن وجوده يدل على أنه وُجِدَ بعد أن لم يكن ، وخروجه من العدم إلى الوجود يتوقف على خالق مُوجِد يكون وراء هذه الحقيقة ؛ هذا أمر لا يقوى إنسان على إنكاره إلا على سبيل العناد ، والاحتمال الثاني : أن يكون هو الذي أوجد نفسه ، وهذا ظاهر البطلان ؛ لأنه يستلزم أن يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في الوقت نفسه ؛ فهو حتى يوجد نفسه ويخلقها ينبغي له أن يكون موجوداً ، وحتى يكون كذلك فلا بد له من موجد ، وهذا يستلزم الدور [1] وهو باطل .
فتبين عقلاً وحسّاً أن الكون لا بد له من خالق ، وهذا من الأمور الضرورية الفطرية التي توجد في نفس كل إنسان وعقله ؛ بل حتى الطفل الصغير قبل سن تمييزه : إذا ضُرِبَ من خلفه التفت باحثاً عن ضاربه ؛ لعلمه أن هذه الضربة لا بد لها من ضارب فاعل .
فإذا تبين ذلك وظهر بأدلته الفطرية والعقلية والحسية ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يكون واحداً في ذاته ؛ إذ إن دقة الصنع ، وانتظام أمر الخلق والكون في أموره الكلية والجزئية الدقيقة ينطق بهذه الحقيقة الكبرى ؛ لأن تعدد الخالقين باعث على التناقض والاضطراب والتنازع كما قال تعالى : [ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] [المؤمنون : 91] .
فبعد أن عرفنا وجود الخالق ووحدانيته في ذاته ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يتصف بصفات يُعرف بها ، وتميّزه عن خلقه ، وهي في حقه على جهة الكمال ، بحيث لا يشترك مع خلقه في شيء من هذه الصفات .
وهذه الصفات الإلهية تجعل الإنسان صاحب تصوّر صحيح ودقيق عن الخالق ، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة ، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه ، ولهذا ينبغي التقيد بما وصف الرب به نفسه من الصفات ، وسمى نفسه من الأسماء ، فإذا تم ذلك كان الإنسان صاحب معرفة صحيحة ودقيقة بالخالق ؛ وعليه كانت معاملته للخالق على الوجه الصحيح المطلوب.
وصفات الخالق تؤكد على معاني العظمة والكبرياء ؛ فهو الخالق لا خالق سواه ، وهو رب العالم كله : علوه وسفله ، وهو الحي الدائم الباقي ، على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وهو المحيي المميت ، المعز المذل ، الرافع الخافض ، القابض الباسط .
ومن صفاته أنه يحب ويبغض ، ويرضى ويغضب : يحب الخير والعدل ، ويرضى عن أهلهما ، ويبغض الشر والظلم ، ويغضب على أهلهما .
فإذا تبين ذلك وعرفنا ربنا الذي أوجدنا من العدم ، ودبّر أمرنا كله ، وقدّره على أحسن التقدير : وجب شكره على هذه النعم ؛ وشكرُ المحسن أمر مستقر في بداهة العقول ، ومحبّبٌ إلى الفطر السليمة ، وشكرُ الخالق إنما يكون باتباع أوامره ، وطاعة أحكامه ، التي فيها انتظام الحياة الاجتماعية ، وتصحيح الحياة الأخلاقية ، بعد أن ضمن الرب انتظام الحياة الكونية ، فيكون الكون كله بأحيائه وأشيائه مطيعاً للرب الخالق .
ولما لم يكن في وسع الناس مخاطبة الرب في الحياة الدنيا أرسل لهم من أنفسهم رسلاً في كل زمان ومكان ، يعرِّفون الناس بربهم ، وبما يحبه ويرضاه من الأعمال والأقوال والأخلاق ، وهو دين الله وشرعه ، ولهذا كانت الرسل هي مصدر المعرفة بالرب وشرعه ودينه .
________________________
(1) الدور : هو توالي عروض العلّية والمعلولية لا إلى نهاية ، أو هو توقف الشيء على ما توقف عليه .
دراسات في العقيدة والشريعة
منهجية في تقرير التوحيد
عثمان على حسن
الإقرار بوجود الخالق أمر فطري ، تشهد له الفطرة السليمة والعقل الصحيح الصريح ، ولا يستطيع أحد إنكاره على سبيل الجزم واليقين ، وإنما قد يغالط فيه على سبيل العناد والمكابرة ، كما قال تعالى في فرعون وقومه : [ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواً ][النمل : 14] .
وذلك أن الكون بأشيائه وأحيائه يشهد بهذه الحقيقة وينطق بها ، بل وجود هذا المُنكِر شاهد بوجود الخالق سبحانه كما قال تعالى : [ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ][الطور : 35] ، فالمنكِر إما أن يستدل على دعواه بأنه خُلِقَ من غير خالق ، أو أنه قد أوجد نفسه وخلقها ، وكلاهما أمر في غاية البطلان عقلاً وحسّاً ؛ لأن وجوده يدل على أنه وُجِدَ بعد أن لم يكن ، وخروجه من العدم إلى الوجود يتوقف على خالق مُوجِد يكون وراء هذه الحقيقة ؛ هذا أمر لا يقوى إنسان على إنكاره إلا على سبيل العناد ، والاحتمال الثاني : أن يكون هو الذي أوجد نفسه ، وهذا ظاهر البطلان ؛ لأنه يستلزم أن يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في الوقت نفسه ؛ فهو حتى يوجد نفسه ويخلقها ينبغي له أن يكون موجوداً ، وحتى يكون كذلك فلا بد له من موجد ، وهذا يستلزم الدور [1] وهو باطل .
فتبين عقلاً وحسّاً أن الكون لا بد له من خالق ، وهذا من الأمور الضرورية الفطرية التي توجد في نفس كل إنسان وعقله ؛ بل حتى الطفل الصغير قبل سن تمييزه : إذا ضُرِبَ من خلفه التفت باحثاً عن ضاربه ؛ لعلمه أن هذه الضربة لا بد لها من ضارب فاعل .
فإذا تبين ذلك وظهر بأدلته الفطرية والعقلية والحسية ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يكون واحداً في ذاته ؛ إذ إن دقة الصنع ، وانتظام أمر الخلق والكون في أموره الكلية والجزئية الدقيقة ينطق بهذه الحقيقة الكبرى ؛ لأن تعدد الخالقين باعث على التناقض والاضطراب والتنازع كما قال تعالى : [ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] [المؤمنون : 91] .
فبعد أن عرفنا وجود الخالق ووحدانيته في ذاته ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يتصف بصفات يُعرف بها ، وتميّزه عن خلقه ، وهي في حقه على جهة الكمال ، بحيث لا يشترك مع خلقه في شيء من هذه الصفات .
وهذه الصفات الإلهية تجعل الإنسان صاحب تصوّر صحيح ودقيق عن الخالق ، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة ، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه ، ولهذا ينبغي التقيد بما وصف الرب به نفسه من الصفات ، وسمى نفسه من الأسماء ، فإذا تم ذلك كان الإنسان صاحب معرفة صحيحة ودقيقة بالخالق ؛ وعليه كانت معاملته للخالق على الوجه الصحيح المطلوب.
وصفات الخالق تؤكد على معاني العظمة والكبرياء ؛ فهو الخالق لا خالق سواه ، وهو رب العالم كله : علوه وسفله ، وهو الحي الدائم الباقي ، على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وهو المحيي المميت ، المعز المذل ، الرافع الخافض ، القابض الباسط .
ومن صفاته أنه يحب ويبغض ، ويرضى ويغضب : يحب الخير والعدل ، ويرضى عن أهلهما ، ويبغض الشر والظلم ، ويغضب على أهلهما .
فإذا تبين ذلك وعرفنا ربنا الذي أوجدنا من العدم ، ودبّر أمرنا كله ، وقدّره على أحسن التقدير : وجب شكره على هذه النعم ؛ وشكرُ المحسن أمر مستقر في بداهة العقول ، ومحبّبٌ إلى الفطر السليمة ، وشكرُ الخالق إنما يكون باتباع أوامره ، وطاعة أحكامه ، التي فيها انتظام الحياة الاجتماعية ، وتصحيح الحياة الأخلاقية ، بعد أن ضمن الرب انتظام الحياة الكونية ، فيكون الكون كله بأحيائه وأشيائه مطيعاً للرب الخالق .
ولما لم يكن في وسع الناس مخاطبة الرب في الحياة الدنيا أرسل لهم من أنفسهم رسلاً في كل زمان ومكان ، يعرِّفون الناس بربهم ، وبما يحبه ويرضاه من الأعمال والأقوال والأخلاق ، وهو دين الله وشرعه ، ولهذا كانت الرسل هي مصدر المعرفة بالرب وشرعه ودينه .
________________________
(1) الدور : هو توالي عروض العلّية والمعلولية لا إلى نهاية ، أو هو توقف الشيء على ما توقف عليه .
4
منهجية في تقرير التوحيد
عثمان على حسن
الإقرار بوجود الخالق أمر فطري ، تشهد له الفطرة السليمة والعقل الصحيح الصريح ، ولا يستطيع أحد إنكاره على سبيل الجزم واليقين ، وإنما قد يغالط فيه على سبيل العناد والمكابرة ، كما قال تعالى في فرعون وقومه : [ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواً ][النمل : 14] .
وذلك أن الكون بأشيائه وأحيائه يشهد بهذه الحقيقة وينطق بها ، بل وجود هذا المُنكِر شاهد بوجود الخالق سبحانه كما قال تعالى : [ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ][الطور : 35] ، فالمنكِر إما أن يستدل على دعواه بأنه خُلِقَ من غير خالق ، أو أنه قد أوجد نفسه وخلقها ، وكلاهما أمر في غاية البطلان عقلاً وحسّاً ؛ لأن وجوده يدل على أنه وُجِدَ بعد أن لم يكن ، وخروجه من العدم إلى الوجود يتوقف على خالق مُوجِد يكون وراء هذه الحقيقة ؛ هذا أمر لا يقوى إنسان على إنكاره إلا على سبيل العناد ، والاحتمال الثاني : أن يكون هو الذي أوجد نفسه ، وهذا ظاهر البطلان ؛ لأنه يستلزم أن يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في الوقت نفسه ؛ فهو حتى يوجد نفسه ويخلقها ينبغي له أن يكون موجوداً ، وحتى يكون كذلك فلا بد له من موجد ، وهذا يستلزم الدور [1] وهو باطل .
فتبين عقلاً وحسّاً أن الكون لا بد له من خالق ، وهذا من الأمور الضرورية الفطرية التي توجد في نفس كل إنسان وعقله ؛ بل حتى الطفل الصغير قبل سن تمييزه : إذا ضُرِبَ من خلفه التفت باحثاً عن ضاربه ؛ لعلمه أن هذه الضربة لا بد لها من ضارب فاعل .
فإذا تبين ذلك وظهر بأدلته الفطرية والعقلية والحسية ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يكون واحداً في ذاته ؛ إذ إن دقة الصنع ، وانتظام أمر الخلق والكون في أموره الكلية والجزئية الدقيقة ينطق بهذه الحقيقة الكبرى ؛ لأن تعدد الخالقين باعث على التناقض والاضطراب والتنازع كما قال تعالى : [ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] [المؤمنون : 91] .
فبعد أن عرفنا وجود الخالق ووحدانيته في ذاته ، بقي أن نعرف أن الخالق لا بد أن يتصف بصفات يُعرف بها ، وتميّزه عن خلقه ، وهي في حقه على جهة الكمال ، بحيث لا يشترك مع خلقه في شيء من هذه الصفات .
وهذه الصفات الإلهية تجعل الإنسان صاحب تصوّر صحيح ودقيق عن الخالق ، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة ، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه ، ولهذا ينبغي التقيد بما وصف الرب به نفسه من الصفات ، وسمى نفسه من الأسماء ، فإذا تم ذلك كان الإنسان صاحب معرفة صحيحة ودقيقة بالخالق ؛ وعليه كانت معاملته للخالق على الوجه الصحيح المطلوب.
وصفات الخالق تؤكد على معاني العظمة والكبرياء ؛ فهو الخالق لا خالق سواه ، وهو رب العالم كله : علوه وسفله ، وهو الحي الدائم الباقي ، على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وهو المحيي المميت ، المعز المذل ، الرافع الخافض ، القابض الباسط .
ومن صفاته أنه يحب ويبغض ، ويرضى ويغضب : يحب الخير والعدل ، ويرضى عن أهلهما ، ويبغض الشر والظلم ، ويغضب على أهلهما .
فإذا تبين ذلك وعرفنا ربنا الذي أوجدنا من العدم ، ودبّر أمرنا كله ، وقدّره على أحسن التقدير : وجب شكره على هذه النعم ؛ وشكرُ المحسن أمر مستقر في بداهة العقول ، ومحبّبٌ إلى الفطر السليمة ، وشكرُ الخالق إنما يكون باتباع أوامره ، وطاعة أحكامه ، التي فيها انتظام الحياة الاجتماعية ، وتصحيح الحياة الأخلاقية ، بعد أن ضمن الرب انتظام الحياة الكونية ، فيكون الكون كله بأحيائه وأشيائه مطيعاً للرب الخالق .
ولما لم يكن في وسع الناس مخاطبة الرب في الحياة الدنيا أرسل لهم من أنفسهم رسلاً في كل زمان ومكان ، يعرِّفون الناس بربهم ، وبما يحبه ويرضاه من الأعمال والأقوال والأخلاق ، وهو دين الله وشرعه ، ولهذا كانت الرسل هي مصدر المعرفة بالرب وشرعه ودينه .
________________________
(1) الدور : هو توالي عروض العلّية والمعلولية لا إلى نهاية ، أو هو توقف الشيء على ما توقف عليه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق